أخبار عاجلة
الرئيسية / آخر الأخبار / غزل بني ديمان

غزل بني ديمان

سُئل أبو عمرو بن العلاء هل كانت العرب توجز؟ قال نعم ليحفظ عنها، وقال يحي بن الحكم لعقيل بن عُلفة : إنك لتقول فتقصر، فقال إنما يكفى من القلادة ما أحاط بالعنق، وقيل لابن الزّبَعرى إنك تقصر أشعارك..

 

فقال: لأن القصار أولج في المسامع، و أجول في المحافل.
و يلاحظ المهتم بشعر أهل إيكيد وفرة القطع مقارنة مع القصائد في دواوينهم، وهو ما يعنى أن الحرص على التناغم مع الذائقة الايكيدية، حدا بالشعراء إلى صياغة شعرهم بأسلوب رقيق وموجز، فحذفوا فضول القول و اكتفوا بالبيتين والثلاثة في أغلب الأغراض.

 

وقد ورد في تذييل نظم الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيديا لهزل بنى ديمان أنهم يستثقلون التطويل:
وسردك القصائد الطوالا *** مستثقل عندهمُ استثقالا

 

ربما يرجع ميول بنى ديمان إلى الإيجاز إلى تأثرهم بحماسة أبى تمام؛ فجل مختاراته قصار جياد، أو أنهم اختاروا أن يكون شعرهم مما قل وفاد فيسهل حفظه وتعم فائدته، أو لأنه طبع فاكتفوا منه بالقليل، و جاء غيرهم شعرا فاحتاج إلى التطويل، وقد أشار الناقد الأديب امحمد بن أحمد يوره إلي ذلك بقوله:
ألا أيها الشــعرور لا تك ناطـــقا *** بشـعر يني عن فهمـه المتناوش
و لا تطل الأشعار في غير طائل *** فشر القريض الطائل المتفاحش

ومن المعروف أن مسامرة الفتيان لا تتم إلا من خلال رواية الأشعار، ولذلك لا تسمع في نوادي بنى ديمان إلا المقطوعات الشعرية المطوية على النكت واللطائف، للإحماض و تجنب الملل من جهة، ومن جهة أخرى لإفساح المجال أمام الحاضرين كي يشاركوا في تجاذب أطراف الحديث.

 

و قد أشار الشيخ الأديب أحمدُّ السَّالم بن عمِّ إلي ذلك بقوله:


فحدثني خليلي في اختصار *** محادثة الظريف مع الظريف
فسُمَّارُ المُغيري لم يزيدوا *** على بيـــــتين في معنى لطيف

تسود مجتمعات بنى ديمان ضروب من الحرية المهذبة في لقاء الرجال بالنساء، ولا يخدش الحياء العام أن يتغزل الشاب الشاعر بالمرأة، والظاهر أنهم أرادوا أن يكون للغزل بصمة ديمانية صرفة، فعدلوا إلى الأوزان الخفيفة كالسريع و الخفيف و المتقارب، و استخدموا الألفاظ العذبة المستورة، والمعاني الرقيقة العفيفة، فجاء غزلهم مفعما بالأحاسيس مع طهارة النفس.
وسلكك في الأسلاك مبروم كرة *** ســـلوك بنى ديمان مبرومة الكر

 

يستهجن بنو ديمان التصريح والبوح بما تكنه الجوانح، ويحبذون الإشارة والتورية، أما الكناية عندهم فهي لفظ أريد به لازم معناه، وإنما يعدلون إليها عن التصريح لأغراض منها التعمية و الإلغاز؛ إما لبيان حال الموصوف مع صيانته، أو للتعبير عن المعنى القبيح باللفظ الحسن.

 

كما أن أشعارهم لا تخلوا من الطرافة من خلال تضمين بعض الرموز و الإشارات و “المفششات” …
واستجابة لطلب بعض الأصدقاء الأدباء فقد حاولت في هذه المقالة أن أسلط الضوء على غزل بنى ديمان، خصوصا منه ما قيل في بيتين من الشعر؛ .

 

من خلال استنطاق نماذج جمعتها على عجل، و لا أدعى الإحاطة بعُشْرِ غزلهم أحرى بجله أو كله. وقد تناولت الموضوع من خلال مدخل عام و أربع ميزات كاشفة.

 

مدخل عام


يعود أقدم نص غزلي في منطقة إيكيد إلى فترة حركة الإمام ناصر الدين رحمه الله ، فقد تناقل الرواة بيتي الشاعر اليعقوبي الحبيب بن بلا ، الذين خاطب بهما إلفه الحاجية وهما :

 

رب حوراء من بنى سعد الأوس *** حبــــــها عــــالق بــــذات النفوسِ
جعــــلت بينـــــنا وبــين الغواني *** و الكرى و الجفون حرب البسوسِ

 

ويبدو أن الجيل الموالى للحرب تطرق شعراؤه لغرض الغزل، حيث تشي أبيات الشاعر التونكلي، أحمد بن احمدُّ بن معدر – تزيل تكانت- بتقبل المجتمع الزاوي لهذا الغرض، حيث ورد ذكر اسم الشاعر واسم المغزل بها في الأبيات؛ وهو ما يعنى عدم التحرج من أي رقيب أو حسيب.


يومي و حوري يوم لست أنساه *** حتى يلاقي ول أحـمد مولاه
يوم تقاصر و الأيام أقصــــرها *** يوم تزور به من كنت تهواه

وقد تغزل شعراء بنى ديمان كما تغزل غيرهم، لكنهم فضلوا مدرسة الغزل العذري التي تهتم بروح المرأة أكثر من جسدها، لذلك نجدهم يشبهون المرأة بالغزال و الرشإ و المها، ويبكون الديار، و يشكون حرقة الفراق، ولوعة خلف الوعد …وسأورد في هذه المقدمة لقطات حية تؤكد تأثر الديمانيين بالغزل العذري العفيف.
اكتفى الأديب محمد عالى بن زياد الأبهمي بأطراف “بنت أبا” دون باقي جسدها، فشبهها بنبت الخروع و البان وقد وفق في الجناس التام في قوله:


لقد أبى القلب إلا حب بنـــــــت أبا *** و عن سواها من البيض الحسان أبى
غانية قد رمت ذ القلب عن عرض *** كأن أطــــرافها من خـــــروع أو أبا

أما الشاعر بك بن سيد بن حرم فقد أجاد سبكا وحبكا في غزله على الحسناء اخناث بنت أنيوال الرزكانية، التي شاهدها، صدفة بجانب بئر “تنشيكيل” فقال:


فما درة حمراء تعرض في حق *** و لا الذهب الابريز ينشر من حق
بأحسن من اخناث بالأمس منظرا *** على جفر ذات اليم مغبرة تسقى

وقد عبر الأديب سيدأحمد بن مامين في أبياته الجميلة عن خيانة “مي” لعهده الذي قطعته عند “زيرت كابون و تنتدركين” حين قال:


يا مي لانــــولك أن تفـــــعلى *** حملتنى ذنبا و لا ذنب لي
و خنت عهدا كان من بيننا *** أيـــــام ذات الــدب و الجندل

أما الشاعر محمد بن ديدِ الفاضلي فقد عانى من هاجس الفراق، و من لوم العواذل وتمنى أن يشربوا من نفس الكأس التي ذاقها :
زود القلب من أمام شجونا *** حذرا من فراقها أن يكونا
جــهل العاذلون ما بي منها *** ليـت ما بي ذاقه العاذلونا

 

وقد أجاد الشاعر الألفغي محمذن باب بن أبنُ في البكاء والحنين إلى انضهوات عندما أهاج غزال أغن بلابله وهمومه فقال:
قد هيج الحزن ظبي *** والمائسات نشاوى
تبك انضهاو حنينا *** آهٍ لبـــاكي انضهاوا

أما الشاعر محمذن بن احجاب فقد عانى من سطوة الرقيب التي دفعته إلى ترك “اجنك” على مضض باتجاه “فُكَّ” الأكثر تحررا فقال:
أيا قلب لا ترحال مني و لا منكا *** عن اجنك ما دامت فطيم لدى اجنكا
و إن يمنع اجنك الرقيب فسر بنا *** مســــيرا لعــــــمري منتهاه إلى فُكَّا

أما المبدع يقوى بن أحمد ميلود فقد نبه ذات الأعين النجل إلى قوة تأثيرها، لكن الله لم يجعل له قلبين في جوفه و قد أجاد في التخلص:


ألا أيها الخـــــاتلي بالمقل *** لتصطاد قلبي أضعت الختل
فلو كان قلبي معي صدته *** و لــــكن قلبي بقــلب الجمل

بيد أن أبيات الشاعر البوميجي محمذن بن والد بدت أكثر وضوحا ، عندما عدد فيها الأشياء التي اطَّباه بها الجنس اللطيف فقال:
خصور الغواني و الثدي الكواعب *** و أعيـــــنها من فوقها والحواجب
تركن فــــؤادي بالغــــرام مشبرقا *** كما شبرقت وجه السماء الكواكب

يتبع إن شاء الله

 

 

يعقوب بن عبد الله بن أَبُنْ

 

 

 

 

 

 

 

 

صدقة جارية