أخبار عاجلة
الرئيسية / آخر الأخبار / العلامة الجليل سيدي ولد محمد محمود ولد الغوث الشنقيطي (0110)

العلامة الجليل سيدي ولد محمد محمود ولد الغوث الشنقيطي (0110)

ولد رحمه الله بأم الخز، في العام الذي يقال له عام الورق، وأظنه عام 1917 م. حفظ القرآن في حياة أبيه محمد محمود، وتوفي محمد محمود وله من العمر اثنا عشر عاما. وممن قرأ عليهم عبد الرحمن بن سيدي عالي. ووالدته لَمَّات (فاطمة) بنت باب (إبراهيم) بن عبداو بن مكي. وكان إبراهيم وأبوه عبداو مشهورين بالعلم والصلاح، وكان يقال لعبداو “عبداو جمل العلاو”، أي مطية المعالي. وأبو جدها مكي بن الطالب أعمر عالم رباني، قال فيه المختار بن حامد: “غزير العلم، مهيب، يخافه الظلمة والجبابرة، ويقيم الحدود، وعليه اجتمع قومه (لمتونة) بعد شرّْببَّ”. لقي ملك المغرب في رحلته إلى الحج، فأكرمه، فلما رجع، ولاه الفتوى والتدريس وإمامة الناس بجامع القرويين عشر سنين، وكان أبناؤه جميعا مثله في العلم، والصلاح والورع، والعبادة، ومنهم ابنه الأكبر الإمام، وقد ولاَّه سلطان المغرب القضاء والفتوى في المغرب والصحراء. وآل مكي هم بيت العلم والقيادة في لمتونة. وجدُّ لَمَّات لأمها باب أحمد بن أخيارهم، عالم جليل، وولي من أولياء الله، صدَّره الشيخ القاضي (إجيجبه) ثم أشار له إلى أنه سيظهر في أم الخز، فاتجه إليها، فلما دنا منها، وجد محمد محمود بن الغوث -وكان ذلك في عهده- خارج الحي، يُشرِف الأيفاع (المرتفعات)، يتشوفه، وهذا من الأدلة على ولاية محمد محمود، وأنه كان مكاشفا، فلم يكن له سابق علم بأن الشيخ القاضي بعث إليه بباب أحمد. فولاه الفتيا والقضاء والتعليم، ثم كانت في بنيه من بعده. وتربى سيدي في كنف خال أمه عبد المالك بن باب أحمد بن أخيارهم، فنشأ نشأة صلاح وتقوى، وحُبٍّ للعلم وأهله وللصالحين، وكانت أمه امرأة صالحة كآبائها وأجدادها، مولعة بالحرمين، حريصة على الحج، وقد سعت فيه جهدها، فلم يُقدَر لها، فتأثر بها ابنها، فتعلق بالحرمين والحج والجوار، فما زال يتحين الفرص حتى كان عام 1969، فرحل بأولاده برا، حتى وصل إلى التشاد، ومنها ركب الطائرة إلى جدة، فوصل إلى مطارها يوم العاشر من شوال، عام 1391 هـ، عام 1971 م، فأقام بالمدينة مجاورا، يحج ويعتمر كل عام، ويطلب العلم على من ألفى بالمدينة من أكابر العلماء والصالحين، كالشيخ محمد الحسن بن سيدي (القلاقمة)، والشيخ محمد المختار بن يوسف (تنواجيو)، والشيخ أحمد بن يباه (تندغ)، والشيخ أعمر بن حبَّ الله (تشمش)، حتى توفاهم الله، غير أعمر، فلزم بيته، لا يخرج منه إلا إلى الحج أو العمرة، أو المسجد النبوي. وكانت بينه وبين هؤلاء العلماء -وهم بقية من أدركنا بالمدينة من علماء الشناقطة وصالحيهم- مودة أكيدة، يحبهم ويحبونه، ويجلهم ويجلونه. وكان أعمر بن حب الله جارنا في الحي، وكانت بينه وبينه صداقة ومحبة إلهية، إلى أن توفاه الله. وقد أصابه الضغط بعد قدومه المدينة بمدة قصيرة، فحال بينه وبين ما كان مشغوفا به من القراءة وطلب العلم، فلزم المصحف، يقرؤه نهارا، ويقوم به ليلا. وفي السبع السنين الأخيرة من عمره أصابه قصور في عضلة القلب، فما زال به حتى توفي الساعة الثانية بعد ظهر يوم الجمعة، الحادي عشر من ذي الحجة، عام 1436 هـ، بعد خمسة وأربعين عاما من الجوار، ودفن في ببقيع الغرقد، بجوار حبيبه -صلى الله عليه وسلم-. فرثاه الشيخ زايد الأذان بن الطالب أحمد (أهل التاگاطي) بقصيدتين، إحداهما من الشعر الفصيح، هي:
جرَى القَدَر المقدورُ قِدْمًا يـُقدَّرُ إذا شـاءَ رَبي، أو يـزيـدُ فيُـعْمِـرُ
هو الموت لم تُفْلِت حـبائلُه الفتى ولا الشيخَ، طال العـمر، أو كان يَقْصُرُ
دعتـكَ المنايا فاستـجبتَ حمامةً، وقـد كنتَ ليـثًا في المُلِـمَّات يـزْأرُ
وقد كنتَ يا سيدي بعيدا عن الْخَنا ولكـنَّمـا أخـنى علـيك المـقـدَّرُ
قصدتَ جوار المصطفى خيرَ موئلٍ؛ مـتى هَمَّ حِـبٌّ بالحبـيبِ يشـمِّـرُ
شددتَ الـرحال، والعشيرةُ كلُّها تناشـدك البـقا، عـزيزا تُـؤمَّــرُ
وقد كنتَ في عـزٍّ ومجـد مؤثَّلٍ، فأبـدلتَ ذاك الـعـزَّ عـزًّا يُعـمَّرُ
وهـأنتَذا جـاراً مقيـماً مخـلَّداً بطـيب شـفـيعِ المـذنبينَ تُعَـطَّـرُ
لئن صرتَ مقبورًا فقد عشتَ أزْمُنًا نبيلاً كـريما، ذا محـاسـنَ تُـذْكَـرُ
تركتَ لنا ذكـرى المحـبةِ والنَّقا، وحـبَّ الفقير، يا الحكـيمُ المـوقَّـرُ
ولو كان منجًى من مصيرِك، لم يكن نبـيُّ الهـدى خـيرُ الـبريةِ يُقـبَرُ
ولـكنَّه الـدربُ الممـهَّد دائمـًا فيسلكُه الرِّعـديـد ثم الغـضنـفرُ
عليـك مـن الله الكريم شـآببٌ مـن الرَّحـَماتِ دائـما تتـكـرَّرُ
ونوَّر قـبرًا قـد غـدوتَ نزيـلَه بنُـور مـن الرحـمنِ لا يتـكـدَّرُ
وصـلَّى على المختار ربيَ سرمـدًا صلاةً بها تُمْـحَى الـذنوبُ وتُغْـفَرُ
والأخرى من الشعر الحساني، هي:
ماتْ شِيـخْ مْـرُوِّتْ لِگبيلْ ماتْ، واگْطعْ مِنُّ لَحْبالْ
ماتْ شِيخْ النِّخْـوَ لِفْضِيلْ ماتْ لَيْثْ ارْجِيلْ أَفِلالْ
غـابْ عَـنَّ وِجْـهُ، يَغَيرْ ما يْغِيبْ مْنِ النَّاسْ اكْبِيرْ
شـانْ، رَادُ فـاتْ القَـديرْ فيهْ دُونْ عْـمَايِمْ لَبْدَالْ
ولا تْغِيبْ الدَّرْجَ والخـيرْ ولا يْغِـيبْ اكبيرْ أزَگَّالْ
مـا اتْلَ في الْحَيِّينْ اليُـومْ حَدّْ كِيـفُ، خِيمُ مَعْلُومْ
مـا يْرِدّْ، وْگَـوْلُ مَحْتُومْ ولا يْخَافْ في الدينْ الگالْ
عادْ وحْدُ، واسْوَ في الگَوْمْ، ذاكَ واحـدْ عَنْدُ، مُحَالْ
ما يْـرَاعِ مـاهْ القيُّـومْ ولا يْخَافْ مْن الناس خْبالْ
ماتْ سِيدِي، حَسْبُونَ اللهْ غَيْرْ يَسـْوَ، خَـلَّ مُـرَاهْ
كِلّْ مَـدْحْ افْلَفَّامْ، وجاهْ بَيْنْ كِلّْ مْنـازِلْ لَقْـلالْ
ذاكَ حَگّْ اگبالْ، وْخَلاَّهْ زادْ جِدّْ لْجِـدَّكْ فِـگْفَاهْ
يَكْـبِيرْ التِّخْـمَامْ، اللهْ لا تْشَـوْفْ فْـذَاكْ المجالْ
ماهْ بَـرْدْ وْسَلامْ، ابْجَاهْ يا الله الرِّسْـلَ بِـكْمَالْ
يا الرَّبّْ الْطِفْ بيهْ؛ أراهْ عادْ عَبْدَكْ سِيـدِي يِنْگالْ:
ماتْ شِيخ مْرُوِّتْ لِگْبِيلْ ماتْ، واگْطَعْ منُّ لَحْبالْ
ماتْ شِيخْ النِّخْوَ لِفْضِيلْ ماتْ لَيْثْ ارْجِـيلْ أَفِلالْ
كان -رحمة الله- تقيا، نقيا، ورعا، شديد الحب لله، شديد الحب لرسوله، جميل الخلْق والخُلق، حسن الصوت، إذا قرأ القرآن، أو قصَّد (ترنَّم بالشعر)، أبكى، وكان -إلى ذلك- أبيا، شجاعا، فتيا، قويا، ورث القوة والفتوة عن أبيه، وكان أشبه الناس به خلقا، وكان صائدا ماهرا (خبَّاطا)، لا تفارقه بندقيته، إذا سافر، ولا يضعها عن منكبه، وكان حازما. سمعته يقول إنه كان مرة في سفر في الشمال، فوجد حيا من العرب، يظعن من داره، فسألته عجوز منهم أن يعين رجالها على حمل خيمة، كانوا يريدون حملها على بعير، فلما هوى ليحمل جانبا منها، قالت له: ضع البندقية؛ لئلا تعوقك عما تريد، وأَلَحَّت عليه أن يفعل.
فقال لها: لن تُحدِّثوا بذلك!
قالت: ممن أنت؟
قال: الأقلال.
قالت: “ماهِ كذب”، أي: صدقت!
تريد أن ما أبدى من الحزم يليق بالأقلال؛ فليسوا من قبائل الزوايا التي يسهل أن تخدع، وأراد إذ قال لها: لن تحدثوا بذلك أنهم لن يحدثوا بأنهم خدعوا رجلا من الأقلال عن بندقيته وقتلوه بها. وكان ذلك الحي معروفا بالغدر. وكان الحزم طبعه في حياته كلها. أما القوة، فورثها عن أبيه محمد محمود، فمن قوة محمد محمود قصة متواترة، تقول إنه كان في وفود الأقلال إلى المغرب لجلب السلاح لقتال الفرنسيين، وكان معه والده سيدينا (سيدي بن الغوث)، فنزلوا بقوم، يبدو أنهم كانوا لا يقرون الضيف، فأشاروا لهم إلى ناقة، أنهم وهبوها لهم قرى لهم، وكانت الناقة من القوة والسرعة بحيث لا يمكن القبض عليها، ولا نحرها، فحاول الوفد القبض عليها، فأعيتهم، أشار عليهم محمد محمود أن يردوها بحيث تمر قريبا منه، فعلوا، فلما قربت منه أهوى بيده إلى خاصرتها، فلما مسها بركت، فنحروها، فلما سلخوها وجدوا أثر يده في خاصرتها. وكان بمحمد محمود يومئذ مرض جلدي، فكان يمسك عليه دراعته بيد، مخافة أن يكتشف، وأهوى على الناقة بيد واحدة. وسمعت الوالد يقول إنه كان مرة متكئا على الخبطة، ومهره ابن الرقيطاء مربط في طنب البيت (خالفته)، فانقطع رباط، فر هاربا، فوثب محمد محمود في أثره، فأدرك عجزه بمرفقه وما يليه من ساعده، فانقلب على عقبيه، وكاد يسقط، فربطه في الطنب.
ولم أر ما يدل على قوة سيدي، فقد أدركته وقد اكتهل، لكني سمعت ابن خاله عبداو بن محمد المهدي بن مكي، وقد حج عندنا في العام الذي قبل وفاته، فلما رآه، كان يتعجب،
ويقول: “لا إله إلا الله، يذاك من القوة والفتوة والجمال”، يريد أنه كان كذلك في شبابه. والقوة في آل الغوث مما هو معروف ومتعالم عند أهل الطالب جدو كافة، بل عند القبائل التي تجاورهم في الرقيبة وأفَلَّ. وقد أوتي مع الحزم والقوة، وقوة الشكيمة التواضع، والبساطة، والزهد، ونقاء السريرة، وسلامة الصدر، فلم يكن يحمل حقدا على أحد، وما أكثر ما رأيته يذبح الشاة، ثم يعمد إلى قلبها، فيشقه، ليرينا أنه نقي، وليس فيه ما يكون في قلوب الدواب من العَلَق، يشير بذلك إلى ما هو مشهور في الثقافة الشعبية من أن من ذبح الشاة، وكان حقودا، فشق قلبها، ظهرت فيه علقة سوداء، فإن كان نقي القلب، لا يحمل حقدا على أحد، لم يظهر فيه شيء من ذلك، وقد رأيت منه ذلك مرارا، فما رأيت فيما شق من القلوب إلا قطرات من الدم يسيرة، وما رأيت في قلب من القلوب التي شقها أمامي، مذ عقلت، عَلَقًا قط، وإن قلَّ، بغض النظر عن علاقة ذلك بما في القلوب. ونقاء قلبه وخلوه من الحسد والحقد حقيقة، يعرفها منه كل من عرفه، ومن آثارها ما كان ما يقول دوما: إن الله -تعالى- لن يعذب به أحدا من خلقه؛ لأنه عفا عن الناس جميعا، والله -تعالى يقول: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، ويقول: (والكاظيمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين). وقد حدَّث بذلك يوما أحد رجال القبيلة، فعجب منه، وقال له: أما أنا، فلا أعفو، ولا أعجب إلا ممن يعفو، فقال له الوالد: ماذا أصنع بعذاب الناس؟! وقد سمعت ذلك الرجل يوما يقول عبارة الوالد هذه (ماذا أصنع بعذاب الناس)، وقد سأله قريب له العفو، فعفا عنه، وأرجو أن يكون ذلك من تأثير الوالد فيه. وحدثني الشيخ محمد عبد الرحمن بن يطول عمره (آل محم)، أن أباه يطول عمره بن محمد عبد الرحمن، لما حج دعاه الوالد إلى مأدبة، فاجتمع عليه الناس، يستفتونه، وكان يطول عمره -رحمه الله- فقيها، فجلس الوالد خلفه، فكان يقول -إذا أفتى يطول عمره- رافعا صوته: ذاك شيء تعرفه أنت، يريد أنه عالم، جدير بالفتيا، قال محمد عبد الرحمن: وكان قصد سيدي بن محمد محمود بذلك إظهار فضائل يطول عمره في الناس، وتعريفهم منزلته في العلم، فما حسده، ولا رأى أن في معرفة الناس قدره غضاضة. وكان سيدي بعيدا من أن يحسد، أو يجد في نفسه من ظهور فضائل غيره، وكان -من حبه القبيلة- يرى ظهور فضل يطول عمره وأمثاله مأثرة من مآثره هو. وأذكر أن جارا لنا في الحي -كان صديقا له- كان يبغض طرق التصوف، قال له مرة، وهما في مجلس: أنت تيجاني، فقال له الوالد: لست بتيجاني، ولكني أعوذ بالله أن أحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله. وما كان الوالد تيجانيا، ولا كانت له طريقة، ولا اتبع أحدا من شيوخ الطرق، مع أنه كان يحب الصالحين حبا شديدا، وكان أخواله آل مكي، ومازالوا، قادريين.
وكان شديد المحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، شديد التعظيم له، فما ذُكر إلا تغيَّر وجهه، ولا قرأ أو سمع قول الله -تعالى-: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) إلا قال: “واللهْ ألَّ مرحب”، ولا سمع أو قرأ قول الله -تعالى-: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم)، إلا قال: “والله ألَّ حامدين مولانا وشاكرينُ). وكثيرا ما رأيته ينشد مديحه، ولا سيما بردة البوصيري، فيبكي حتى تخضلَّ لحيته، وكان يحفظها، من كثرة قراءته إياها. وكان يحب الخفاء، ويكره الظهور، كأنما كان يعتقد قول أحمد بن حنبل: “طوبى لمن أخمل الله ذكره”، ويعمل به. فلما نزلنا الحي الذي نسكنه اليوم، وكان ذلك عام 1393 هـ، جاءتنا امرأة مسنة من آل سيدي محمود، تسلم علينا، ولم تكن قد رأت المنزل، فوجدت أطفال جيراننا، وكانوا سعوديين، يلعبون عند بابهم، فسألتهم: أين منزل آل الغوث؟ فقالوا لها: “أيشْ غوث؟ ما نعرف غوث!”، فتولت، وهي تقول رافعة صوتها: “أرض الله واسعة، قالْ لكم إنْ خالق حدّْ ما يعرف أهل الغوث!”. فلما علم الوالد، حمد الله، وفرح، وقال: هذا ما كنت أريد، أن أجاور النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا أُعرَف ولا أُذْكَر.
وكان ودودا، لا يمر بأحد إلا سلم عليه، وتبسم في وجهه، عملا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”، وقوله: “وتبسمك في وجه أخيك صدق”، وقوله: “لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق”. ورأيت أثر ذلك، وأثر حبه الناس، ومخالقتهم بخلق حسن، في كل من عرفه. قال لي يوما شاب يمني، كان جارا لنا، وقد علم أنه مريض: لئن مات، لقد ترك أثرا حسنا في الناس، لا يموت، ولن تموت ابتسامته. وكان جيراننا من السعوديين يحبونه حبا جما، ويقولون: ليس في الحي من الشناقطة مثله. وكان لأحدهم حانوت في الحي، فقال له يوما: يا فلان، إذا احتجت إلى شيء من الحانوت، فابعث إلي بنيتك الصغرى، هذه؛ لتخبرني بما تريد، وسأحمله إليك بنفسي، ثم ائتني بثمنه متى شئت. وكانوا إذا مروا بالمنزل ذاهبين إلى المسجد، وكان منزلنا في طريقهم، سلموا عليه، وسألوه عن حاله، وما أكثر ما سمعتهم يقولون له: “كيف حالك يا بو مختار؟”. وكذلك كان الحلاق الذي يحلق عنده رأسه، وكان باكستانيا، كان يحبه، وكنت إذا جئته، قال لي: كيف حال بابا؟ ولم أكن أظن أنه يعلم أنه أبي. وزرت شيخنا خطري بن سادي يوما، فرأيته ينظر إلى قدمي، وقد اغرورغقت عيناه بالدمع، ثم قال لي: شوَّشتَ عليَّ (أي هِجْت ما سكن من حزني)، فقد ذكرتني قدمك قدم سيدي، وكان ذلك بعد وفاته. ولما سكنا الحي الذي نحن فيه اليوم بالمدينة، كان بعض جيراننا من الموريتانيين من تندغ، ثم من حيين منهم، يقال لأحدهما إجواج، وللآخر أهل أعمر گدبجه، وكانت ثقافتهم مختلفة عن ثقافتنا، وبعضهم يتكلم باللغة الصنهاجية، وما كنا نعرفها قبل ذلك، ولا نظن أن في موريتانية من يتكلم لغة غير الحسانية، فلما عرفوه أحبوه حبا شديدا، رجالا ونساء، وكانوا يجلونه، ويزورنه، وكانوا يصرحون له بذلك، فقد قالت له امرأة منهم مسنة يوما، ورأته قادما: مرحبا، مرحبا، مرحبا، ليس ترحيب أهل القبلة، أتدري ما ترحيبهم؟ قال: لا، قالت: إذا رأوا شخصا مقبلا، قالوا: ماه، ماه، ماه، حتى إذا دنا منهم، قالو بعدد ذلك: مرحبا، فكانت “مرحبا” تتمة لـ “ماه”، أي لا مرحبا بك. تريد أن ترحيبها به ترحيب صادق، وليس الترحيب المعتاد عندهم. وقال لي عبد الرحمن الربع (أولاد أبيري)، إن من أسباب حبه الأقلال، دون سائر القبائل، أنه كان إذا جاء الرجال الذين كان الوالد يجالسهم في الحي عصر كل يوم، قام له الوالد، فضمه إليه، وأراه الحب، وفسح له في المجلس. ولقيت المصطفى بن عبد الدائم (تركز) يوما وأنا خارج من مسجد الحي، ولم يعلم بوفاة الوالد إلا بعد انتهاء أيام العزاء، وكان الدمع يحدر من عينيه، وكان يبدي الحسرة على وفاته، وكان سيدي صديق والده: لقد كان سيدي رجلا عجيبا! كان من أخلاقه أنه لا يردُّ على أحد، ولا ينازعه الكلام!
ولعل مرد بعض ذلك الحب والقبول اللذين وضعا له إلى ما قال هاشم بن عبد الله، شيخ شرفاء امْبودْ: آل مكي نعناع بيوتات الزوايا، وكل أسرة ارتبطت بهم، كانت أعظم شأنا من أبناء عمومتها، علما، وجاها، وعزًّا، وكرما، وصلاحا (انتهى كلامه). ولا غرو أن يكون ذلك؛ فالله -تعالى- يقول: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه)، وكان آل مكي بما قد علمنا من العلم والصلاح والفصل، وقد جمع الوالد إليهم خؤولته في آل أخيارهم، وهم أهل بيت علم وصلاح أيضا، وهم الذين ربوا الوالد.
وكان محبا للقبيلة، ومن أحبها إليه أهل الطالب جدو، وأهل بو مالك، وكانوا -رجالا ونساء- يبادلونه حبا بحب. وكان من أحب أهل الطالب جدو إليه أهل محم، وكان يرى أن ذلك الحب كالموروث عن والدنا الطالب مصطفى، فقد كان يحب والدنا شاو -رحمة الله عليهما- حبا جما، وظلت تلك المحبة يرثها الخلف من أبناء شاو والطالب أحمد جدو بن نختيرو بن الطالب مصطفى عن السلف، إلى اليوم. وكثيرا ما سمعت الوالد -رحمه الله- يقص طرفا من أقاصيص ذلك الحب. قال لي الشيخ محمد عبد الرحمن بن يطول عمره إنه كان يحمِّله السلام إلى آل محم، كلما علم أنه مسافر إلى البلاد، قال: وكان يقول لي اقرأ عليهم جميعا سلامي، واقرأه أيضا على بقرهم وعجولهم. وزاره في مرضه الأخير محمد بن يطول عمره، فلما عرفه، تهلل وجهه، وظهرت عليه أمارات الفرح، وأخذ بكفه وألصقها بصدره، يتبرك به، ويريه مبلغ حبه إياه، وما زال ممسكا بها حتى أخذته غيبوبة كانت تلازمه أكثر وقته، منذ مرض مرضه الأخير. ووجدنا بالحجاز فاطمة بنت عثمان (آل التاقاطي)، وكانت أخته أو عمته من الرضاع، وكانت -رحمها الله- امرأة صالحة متصوفة، فكانت تعوده أبدا، وتأتيه في الشهر أو الشهرين مرة، في الأقل، فتظل عنده، فكانت إذا دخلت من الباب، خفَّ إليها، فرحًا بمقدمها، وأمسك بيدها، وأسندها، وكاد يحملها، وكانت مسنة، ثم يبسط لها عمامته، ويجلسها عليها، ويجلس بين يديها، كما يجلس الولد البر بين يدي أمه. وسمعته يوما يقول إنها قالت في الأيام الأولى من مقدمنا: لم يبق في قلب فاطمة مكان لأحد لما جاء سيدي بن الغوث. وظلاَّ على ذلك الحب والتواصل، حتى انتقلت إلى رحمة الله. ولما توفي يب بن الطالب (آل التاقاطي) -رحمه الله- كان إذا جاء مكة لا ينزل إلا عند أولاده، وكانت في مكة أسر عدة غيرَهم من أهل الطالب جدو، وكان أولاد يب، حينذ صغارا، فسألته مرة: ما لك لا تنزل إلا عند آل الطالب، قال لي: إن الأطفال إذا مات أبوهم، ولم تكن أمهم بنت عمهم ربما حسبوا أنهم من أخوالهم، وجهلوا قبيلتهم، فأنا أخشى أن يضيع أولادنا، ويحسبوا أنهم من أدو بلاب (أخوالهم)، فأنا أحرص على النزول عندهم، وقضاء ما أقضي في مكة معهم؛ ليعرفوا منهم. وإنما فعل ذلك حزما، وإلا فقد علم أن أمهم كانت امرأة عظيمة، فاضلة، محبة للقبيلة، حريصة على وصل أولادها بأهلهم، وكان والدها -رحمة الله عليه- مثلها محبا للقبيلة معظما لها، وكان إلى ذلك من كبار العلماء الصالحين المتبتلين. وقد كبر الأبناء، وهم اليوم رجال فضلاء، من خيرة رجال القبيلة في الحجاز، وهم على نهج أبيهم (يبَّ) في الفضل والكرم، وحب القبيلة، وكانوا يكنون للوالد في حياته من الحب مثل ما كان يكن لهم ولأبيهم وأسرتهم كلها (آل التاقاطي).
وكان -رحمه الله- تعالى ذا فراسة عجيبة، ونظر ثاقب، فمن فراسته أنه سمع يوما مؤذنا يؤذن في مسجد في حي قريب من حينا، فقال إن هذا الرجل أهيف (ضامر البطن)، ولم يكن رآه، وكان الرجل كما قال. ولعل هذه الفراسة مما ورث من محمد محمود، ولعل محمد محمود ورثها من أخواله آل الطالب مختار بن أحمد بن الجويدة (إديبسات)، فقد سمعته يروي عن المهدي بن بابا بن سيد أحمد (من أهلنا من آل الطالب مختار) أنه حدثه بأنه مر على محمد محمود يوما، يسوق غنما، وهو شاب، فلما سمع صوته، ناداه: يا مهيدي، من غير أن يرفع رأسه، أو ينظر إليه، قال: فلما وقفت عليه، قال لي: سمعت صوتك وأنت رضيع، فلما سمعته الآن عرفته. وسمعت شيئا كهذا من الوالد، أنه عرف صوت أخيه يسلمه بن محمد محمود، وهو في الأربعين. وهذه القصص -فضلا عن أن رواتها ثقات- لا تُستبعَد، فهي ضرب من الإلهام، وقد وقع لي مرة ما يشبهها، وكان ذلك في موسم حج عام 1392/ 1972 ، وهو عامنا الثاني في الحجاز، وكنا يومئذ بمكة، بحي يقال له جرول، وأنا صغير، فنزل وفد من حجاج موريتانية في الحوش الذي كنا نسكنه، وكان فيه رجل قصير، فقلت لصاحب لي: إن هذا الرجل هو همام، ولم يكن يداخلني الشك في ذلك، وإنما هو شيء جاء على لساني، فقلته، ولم أكن قد رأيته، ولا رأيت من رآه، وكل ما أعرفه عنه عبارة سمعتها من كلام، ما أدري أهو طلعة، أم شيء آخر، هي: “ذاك آن همام بلفريرات”، أو عبارة نحوها. فكان الرجل هماما، كما تفرست.
وكان -رحمه الله- يعظم أخواله وأخوال أبيه وجده تعظيما شديدا، أما أخواله لمتونة، فما سمعه أحد يتكلم عنهم إلا ظنه منهم، وكان أعلم بهم من بعضهم، وكانوا يقرُّون له بذلك، وكثيرا ما سمعته ينشد قول الشاعر مفتخرا:
قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا دُعوا لمتونة فـهمُ هُمُ
لما حـووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم؛ فتلثموا
وكان كثيرا الحديث عن يوسف بن تاشفين؛ لأنه جده لأمه، فإن فخذها من لمتونة (إدگبامبره)، ينتسبون إليه، ويذكر مناقب أبي بكر بن عمر؛ لأنه جد سائر لمتونة. وقد تجاوزت هذه المحبة لمتونة إلى اليمنيين كلهم، فكان إذا لقي يمنيا، ذكر له أن اليمنيين أخواله، وكان بسبب هذا الشعور يغار على اليمنيين، أن يكون منهم ما ليسوا أهلا له، في نظره، من ذلك أنه جاء يوما بعامل يمني، ليصلح له شيئا في الدار، فسأله عن عامل آخر كان معه، أين هو، فقاله العامل: بيجي (سيأتي)، فغضب عليه، وقال له: أنتم أصل العرب، ومنكم الإمام مالك، إمام المذهب، وأبو الحسن الأشعري، إمام المعتقد، وتقول، بيجي؟! أي شيء بيجي؟!. ينكر عليه أن يدخل الباء على الفعل، وهي لغة فاشية في أهل المشرق العربي، ولا سيما أهل الشام، يقولون: بيكتب، بيقول، والشائع في لغة أهل اليمن العامية استعمال الشين للدلالة على المستقبل، بدلا من السين، يقولون: شمشي، شقول، أي: سأمشي، وسأقول، وهو تصحيف، وقد تأثر بعضهم بلهجات أهل الشام، فلذلك يدخلون الباء على المضارع للدلالة على الاستقبال. أما أخوال أبيه (إديبسات)، فكان يحبهم ويعظمهم لمكانتهم من محمد محمود، ولا سيما آل الطالب مختار بن أحمد بن الجويدة، ثم آل سيد أحمد من إدقميامه؛ لأن منهم أم جدته فاطمة الحبيبة، ثم أهل صالح، من أولاد بوياحم؛ لأنه جدتها منهم. وكان من تعظيمه إياهم لا يحب أن يقال لهم إديبسات”، ويرى أنها تصغير لهم، وإن كانت هي التسمية الشائعة، فكان يحذف الياء تجنبا لذلك، فيقول: أدبوسات. ودخل المستشفى في العام الذي قبل وفاته، فكان على السرير الذي بجانبه رجل بوساتي، ولعلمي بحبه إياهم، قلت له: ديدي، إن جارك بوساتي، قال لي: أحقا؟ قلت: نعم، فرأيت وجهه بدت عليه أمارات الارتياح، فقلت له: أتحبهم؟ قال: “والله”! فسمعه مرافق البوساتي المريض، فقال لي: ونحن أيضا نحبه. وكان يشتري التمييز (خبر يباع في الحجاز) كل يوم من فرن، يلاصقه حانوت لرجل من أنصار المدينة، وكان اسمه ونسبه مكتوبين على الحانوت، فكان إذا اشترى التمييز، عرَّج، فسلم عليه، وكان قد أخبره أن أخواله من الأنصار؛ فنشأت بينهما مودة من ذلك. أما أخوال أبيه سيدينا (سيدي بن الغوث)، فكان يحبهم حبين: حبا للشرف، وحبا لأنهم أخوال سيدينا،”سيدي ولد الغوث” فأم سيدينا بنت مولاي الزين، وأم جده لأمه من تركز، وكان من أجل ذلك يحب تركز أيضا، وبينه وبين مَن بالمدينة منهم محبة وتواصل.

وسبق أكثر أهل موريتانية بالدعوة إلى تحرير الأرقاء، لكن ذلك كان مقصورا على نفسه وإخوته، فقد حرر منهم مَنْ ورث عن أمه، ثم أرسل إلى إخوته أن الزمان ليس زمان رق، فمن الخير لهم أن يعتقوا من عندهم، ويتخذوهم إخوانا، ففعلوا. ولم أر عنده -منذ عقلت- عبدا ولا أمة مملوكين له، وكان يستأجر من يعمل له .
معلومات كتبها البرفسور الدكتور مختار الغوث، حفظه الله ورعاه
وهو إبن صاحب الترجمة العلامة الجليل : سيدي ولد محمد محمود ولد الغوث رحمه الله

صدقة جارية