أخبار عاجلة
الرئيسية / آخر الأخبار / غزل بني ديمان.. الجزء الثاني

غزل بني ديمان.. الجزء الثاني

الميزة الأولى: التورية عن اسم المغزل بها.. يختلف الشعراء في ذكر أسماء المقصودات بشعرهم، فمنهم من يستعير للمغزل بها اسما خياليا كسعاد و أدد… يكون سهل اللفظ متماشيا مع روي القصيدة وقافيتها..

 

وقد أشار إلى ذلك مالك بن زغبة الباهلي بقوله:
وما كان طبي حبها غير أنه *** يقام بسلمى للقوافي صدورها

 

وقد يصرح بعضهم في شعره باسم إلفه مرارا وتكرارا حتى تصير علما عليه ككثير عزة، وجميل بثينة، و قيس ليلى، وغيرهم.
وقد لاحظت بعد قراءتي للنصوص الغزلية – التي بين أيدينا- أن شعراء بني ديمان سلكوا طريقا وسطا بين النوعين، فلا يلقبون النساء بأسماء مستعارة، ولا يشهرون بهنَّ، ولكنهم يستخدمون أسلوب التورية ، بحيث يقحم الشاعر اسم المعنية في النص من خلال سياق آخر، قد تم التقديم له سلفا فلا ينتبه – من ليس لديه إلمام بحيثيات الموضوع – إلى تصريحه بالاسم.

 

و هذه التورية تمكن الشاعر من تفادى التشهير، كما تضيف نكتة جديدة إلى النص تزيد من قيمته الفنية.

 

و إليكم نماذج من ذلك:
أجاد الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف في التورية عن اسم امرأة تدعى “الشيَّ” عن طريق الاقتباس القرآني الموفق في قوله:


إن الجماعة إذا جئتها *** أنظر قاصيها و دانيها
فإن تكن صفراء لا شية *** فيها فإني لست آتيها

وفي نفس السياق القرآني ورَّى الأديب المختار بن حامد عن اسم سيدة سنغالية تدعى “ياسين” وذلك حين قال:


ياسين ترتيـــــلها جزء من الدين *** لا ينبغي الزهد في ترتيل ياسين
ياسين أنظرها شزرا و تنظرني *** و ذلك القــــدر تاهــــم عن كافين

كما أجاد أيضا في التمويه على اسمي سيدتي بقاس “خيرا” و “آمنة” عندما ساق سماهما في سياق آخر:
لقيت شيخا ببــــــقاس وعا فئة *** يا ليتني زرت ذاك الشيخ ثانية
حتى ترى النفس من لقياه آمنة *** شرا و لاقيـــــة خيرًا وعافية

 

وأقحم الشاعر المبدع المختار بن ميلود بن المصطفى بن محم سعيد اسم “الزغم” في تأكيده على زيارة الشيخ والد فقال:


زر والدا إن كنت ذا حاجة *** تنل من الرحمان فضلا سما
واحذر من الزغماء إن زرته *** فآفـــــــة الزائر أن يزغما

 

أما الشاعر سيد محمد بن عبد الرزاق فقد وظف اسم ” الشفا” توظيفا بديعا في أبياته التالية:


كنا نظن غيود اللهو قد ذهبت *** عنا و ما خلفت من بعدها خلفا
لكنه من يجئ للجنك ذا كفس *** من دائه سيجد فيها الشفا و كفى

 

الميزة الثانية: بروز الخلفية العلمية والثقافية
من الميزات الجميلة لشعراء الثقافات العالمة عموما، و بني ديمان خصوصا، بروز خلفياتهم العلمية والثقافية بين تفاعيل نصوصهم الشعرية، ولم يشكل غزلهم استثناء من القاعدة، فقد ظهر جليا في مقطوعاتهم الغزلية امتلاكهم لناصية العلوم المحظرية، ورغم الطابع الجدي لتلك العلوم فقد نجحوا في توظيفها في الشعر الغزلي الهزلي دون أن تؤثر على عفوية الشاعرية، و قوة السبك، و جودة المعاني، و سلاسة الألفاظ .
أشار الأديب الأريب المختار بن حامد إلى اختلاف ألسنة الشعوب و أزيائهم، وإلى حادثة الإفك الشهيرة في أبياته التالية:


و حسناء تات المرص لابسة ترك *** تزيت بزي الروم والفرس والترك
تبرأت من حسنا ســــواها أزورها *** بـــــراءة أم المــــؤمنين من الإفك

أما الشاعر محمد يقوى بن أحمد ميلود فقد جعل من اقتناصه لغفلات إلفه مدعاة للتفكر في حسن خلق الله والتدبر في صنعه فقال:
مروا بنا على ابنة الباقر *** ذات البها و المنظر الباهر
لعلنا في بعـــض غراتها *** ننـــظر صنـع المتقن القادر

وقد خاف الشاعر عبد الله بن بيدح على نفسه من إشارة بيضاء السوار، فصرف نفسه عنها من شدة خوفه من كيدها فقال:
وبيضاء السوار لها خضاب *** بتفــــــــجير الدماء من الــقلوب
أشارت لي فقلت لها ذريني *** أخاف على الضعيف من الذنوب

أما الشاعر المفلق أبو مدين الغوث فقد اكتشف حجة جديدة تقوى موقف الداعين لقبض اليدين في الصلاة فقال :
صلاة فــــتاة الحــــي بالقبض للفرض *** تزهـــــد في سدل اليدين بلا قبض
و من يك صلى الفرض بالسدل بعدما *** رءاها تصلى قد تهاون في الفرض

ويبدو أن الشاعر الأفظل بن زياد الأبهمي ذكر مريم قائما وقاعدا وعلى جنبه حتى خشي أن تؤثر على خشوعه في صلاته فقال:
إن لـــله در هــــاذي الفـــتاة *** جـــعلــــتني مضــــيعا للصلاة
في سجودي أقول مريم ومر يم*** في ركوعي و مريم تحياتي

كما وظف الأديب محمد فال بن عبد اللطيف الجحفة التي قدمت عليها “صفية” إلى روصو في السبعينات، في التورية عن ميقات الجحفة الذي يحرم منه حجاج الشام و مصر وأهل المغرب فقال:
صفية تسلب لب الفتى *** و تـــــترك الجاهل كالعارف
و بالمدينة لها جـــحفة *** وكم لها في البـيت من طائف

 

وقد أحسن الشاعر محمد بن أحمدونا الفاضلي في توظيف مطالعة إلفه لشرح الشيخ حماد على نظم عمه البدوي للغزوات فقال:
غزانى بجند الشوق ظبي رأيته *** يطالع “حمادا على الغزوات”
حمدت إلـــهي إذ غزاني بجنده *** وما كنت حمادا على الغزوات

أما الأديب محمد بن امُّو الأبهمي فقد ذكرته رؤيته لصغيرة تحت خيمتها تلهو بألعابها، بنظره في كتب أهل الكلام فقال:
رأت عيني غزالا في نساء *** على “الأوزار من أهل السنوسي”
وقفت له أطــــالعه طـــويلا *** مطــــالعة الغزالي و السنوسي

أما الشاعر يقوى بن أحمد ميلود، فقد أشار في بيتيه إلى أن ليت من حروف التمني و قد أجاد في رد العجز على الصدر :
ليت أنى وليت حرف تمنى *** و أنا اليـــــوم بين ظن ورن
والغزال الأغن منـــى بعيد *** كنت من جيرة الغزال الأغن

و يبدو أن الشواهد النحوية لم تسلم من غزل بنى ديمان فهاهو الشاعر أحمد بن الداهي الفاضلي ينبهنا إلى محل الشاهد في أبياته التالية:
يشهد ربي وهو خير شاهد *** أن الجمال خيرها بوشاهد
و مريم هـــــي عليه شاهدي *** وشاهدي هو محل الشاهد

 

الميزة الثالثة : ورود أحداث تاريخية في النص
يبدو من خلال نص القاضي أحمد سالم بن سيد محمد أنه قيل في خضم الحرب العالمية الثانية، وما صاحب ذلك من نقص في اللباس والغذاء والدواء:
إن أمش فوق ثنايا الخط في مهل *** أجر “حولي” و حولـي بنت معلوم
فما أبالى بما جـــــر الزمان على *** قومي و ما نابهم من نــوب الروم

 

كما تشير أبياته التالية إلى ظاهرة انتجاع خلا المراعي، و قد أجاد في قوله “أيا اللهم” ، الذي أشار ابن مالك إلى ندرة ورودها في القريض:
أيا رب إن الزهر مطلبها شطا *** و لا وصل منها دون أن تنزل الخطا
فإن كان قحط السهو يدني مزارها *** فأرسل أيا اللهمَّ للســــهوة القحطا

 

أما نص الأديب المختار بن حامد فيعرفنا على الأسرة التي كانت مكلفة من طرف أمراء اترارزة بتحرير تراخيص استغلال سبخة انتررت:
صاح قل للفتـــاة بنت إعيش *** هل لها في مرابط درويش
والتمس لي كتاب ملح لديها *** كتب الملح عند بنت إعيش

في حين يضعنا الشاعر المختار بن محمدا في جو تحضيرات زيارة رسمية قام بها الرئيس المختار بن داداه إلى قرية “احسي المحصر” في الستينات فقال:
يقام الحفل في حي الأمير *** بشكل مستطـــيل مستدير
فتنظيم الرجـــــال له مثير *** وتنظيم النسا فوق المثير

 

الميزة الرابعة : استخدام الشعراء لأسلوب ازريكة في الغزل
مزج شعراء أهل إيكيد شعرهم الفصيح بكلمات و أمثال من اللهجة الحسانية، وهي ظاهرة عرفت في ما بعد ب “ازريكة” ويعتبر الشيخ الأديب امحمد بن أحمد يوره أحد فرسانها المجلين، وقد لاقت النصوص المشوبة بالحسانية استحسانا لدى الجمهور لابتعادها عن التعقيد، واشتمالها على خصائص موروث مجتمع البيظان، وسرعة حفظها من طرف العامة. وسنختم المقالة بنماذج من استخدام ازريكة في غرض الغزل:
يقول الشيخ امحمد بن أحمد يوره وقد أجاد كعادته في تطويع الأمثال الحسانية:
و لما أحست الوصل من أم مالك *** فررت بحبلي قبل أن يتصرما
وما ذاك إلا عن صحـــيح فراسة *** وشيء على رأس اللسان تكلما

 

أما الشاعر يقوى بن أحمد ميلود فقد قرر البقاء عند “العرش” بغض النظر عن قرار أترابه ترك “العزيب” فقال:


لعمرك والعشاق تعذر لا أمشى *** عن العرش ما دام العزيب لدى العرش
و ذلك يا أحــــباب ذلك قــــدره *** فــــمن شاء فليـــــقعد ومـن شاء فليمش

وقد أجاد الأديب المختار بن حامد في توظيف مفردات ازريكة التي جاءت متناغمة مع الفصحى في قوله:
توت ابنة اعلي التي شفتها *** ما فشني منها الذي شفته
وما خفي و الخير ظني به *** ما شـفـته لو شفته قلتـــه

كما وفق الشاعر محمذن بن ابَّبَابَ في الجناس التام بين المفردة الحسانية والفصحى ، كما أجاد في رد العجز على الصدر فقال :
أضنى الفؤاد و زاده وجدا *** صرم الحبيب و قوله أبدا
يبدي ويخــفى من محاسنه *** لله ما أخـــــفى و ما أبدى

أما الشاعر محمد بن سيد أحمد الفاضلي فقد تناول في أبياته غرض “المكفي” المعروف عند شعراء البيظان:
لئن تصبحي يا مي عريانة دخنا *** علــــيك طــــريف أغبـر اللون ما يهنا
ففيك عن الغـيدات معنى مشاهد *** و هل يستطيع الصبر من شاهد المعنى

كما وظف الأديب أحمدُّ بن اتاه بن حمين كلمة من اللهجة الولفية توظيفا بديعا و ذلك في قوله:
أقول وقد مرت على مقلتي حسنا *** تمــــيس كأغصان نواعم قد مِسْنا
تحاكى بذاك الميس لبـــــنى لعلها *** تصيد قلوب المولعين بها ” دَسْنَا”

وقد أتحفني الشاعر المطبوع المقبول بل بن ديد رحمه الله بأبيات له في هذا الغرض جعلتها ختاما مسكا لهذه المقالة وهي:


عشقتك حتى صرت لا أخرج الكبَّا *** فتــــبا لهــــــذا الحـــــــب تبا له تبَّا
فلا أنا بالمـــحبوب أصبحت ظافرا *** و ذا الحب صرت اليوم أسربه حبَّا

يعقوب بن عبد الله بن أَبُنْ

صدقة جارية