شكر وتقدير

يتوجّه المؤلّف بالامتنان والشكر إلى العدد الكبير من الموريتانيين الذين عاونوه في عمله الميداني، وإلى ألكس ثورستون وأنوار بوخرص وابراهيم يحيى ابراهيم الذين قرأوا المسوّدات المتتالية لهذه الورقة. ويعرب المؤلّف عن شكره أيضاً لأنمار جرجس على المساعدة التي قدّمها. أُنجِز هذا البحث بدعمٍ سخي من مؤسسة كارنيغي في نيويورك ومؤسسة هنري لوس.

مقدّمة

في مطلع أيار/مايو 2018، أصدر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بياناً حضّ فيه أتباعه على شنّ هجمات ضد الأجانب في بلدان الساحل، ومنها موريتانيا.1 وبعد انقضاء عامٍ تقريباً، لم ينفّذ الجهاديون هذا التهديد في موريتانيا، مايُسلّط الضوء على الشوط الطويل الذي قطعته البلاد بعد موجة الهجمات التي ضربتها في المرحلة بين 2005 و2011.2

منذ تلك الحقبة العنفية، أثبتت موريتانيا أنها عصيّة على الجهادية بطريقة لافتة، على الرغم من وجود عوامل تُغذّي التطرف، كالانقسامات الاجتماعية العميقة، والفساد، والسلطوية، واشتداد القنوط الاقتصادي، وتوافُر ملاذات جهادية آمنة وساحات معارك خارجية في الجوار، آخرها في مالي. ووفقاً لمصادر حكومية، تمكّنت موريتانيا من الصمود في وجه العاصفة لأسباب عدّة أبرزها الجمع بحنكةٍ بين الحوار مع بعض الجهاديين المسجونين وإعادة تأهيلهم وبين فرض عقوبة قضائية قاسية بحق آخرين، فضلاً عن تعزيز مراقبة المساجد والمدارس الإسلامية وترسيخ السيطرة عليها. وهذا الإجراء الأخير يبدو ذا أهمية بالغة في السردية الرسمية التي تعتبر أن التقليد التاريخي العريق للمدارس والتعاليم الإسلامية في موريتانيا يساهم في تحصين المتشددين المحتملين ضد أفكار الجهادية المضلَّلة. غير أن هذه السردية تؤدّي إلى التعتيم على الجذور الاقتصادية الاجتماعية الأكثر عمقاً لمسألة التطرّف.

فريدريك ويري
تركّز أبحاث ويري على الإصلاح السياسي والقضايا الأمنية في دول الخليج وليبيا، والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط عموماً.

تستطلع هذه الورقة، استناداً إلى عمل ميداني، في موريتانيا ومقابلات مع مسؤولين ورجال دين ومع جهاديين سابقين، في هذه الأسباب الجذرية للتطرّف، وتضع تقييماً حول مدى ديمومة الرد الذي يلجأ إليه النظام، عبر تركيزه بصورة خاصة على استمالة الأئمة السلفيين الذين يعبّرون عن آرائهم بجرأة ويمتلكون روابط مع الجهاديين. وعلى الرغم من أن النزعة الجهادية العنفية غير سائدة في أوساط الإسلاميين الموريتانيين، إلا أن البلاد تنتج منذ وقتٍ طويل عدداً كبيراً من الجهاديين الذين ينضمون إلى المجموعات المقاتلة الإقليمية، ولاسيما نسبةً إلى عدد سكانها الصغير. يواصل الموريتانيون القتال في صفوف التنظيمات الجهادية في الساحل (ولاسيما في مالي)، ويتولّى بعضهم مناصب رفيعة – دينية وقانونية في معظم الأحيان – خصوصاً في تنظيم القاعدة.3 في غضون ذلك، يُمنَح العلماء السلفيون الموريتانيون الذين كانوا سابقاً في السجون، هامشاً للخطابة والتكلّم في الشؤون السياسية – ويلامسون أحياناً حدود الدعوة إلى القتال – شريطة ألا يُشكّلوا تهديداً مباشراً للحكومة. كذلك تُجيز الحكومة لوسائلها الإعلامية نشر بيانات صادرة عن مجموعات جهادية في الصحارى والساحل. إذن، يخضع العنف الجهادي في موريتانيا إلى الكوابح التي تفرضها القبضة القوية للدولة والوسائل العسكرية التقليدية لمكافحة الإرهاب، والتي يُخفِّف من حدّتها التساهل التكتيكي تجاه الإعلام الجهادي والإجراءات “الناعمة” مثل توسُّط أئمة لدى الجهاديين في السجون.

طرحت الحكومة هذا “النموذج الموريتاني” لإعادة التأهيل والممانعة المجتمعية واستيعاب الأئمة بمثابة نمط يمكن استنساخه في أماكن أخرى، واستضافت مؤتمرات لنشر هذه الفكرة. وقد عَزَف مسؤولون أميركيون أحياناً على وتر هذا النهج، مشيدين بموريتانيا التي وصفوها بأنها نموذج يُحتذى في “التصدّي للتطرّف العنفي”.4 لكن هذه الأساليب في التعاطي مع الجهادية العنفية – وبالطبع مع السلفية – ليست قابلة للاستنساخ بالضرورة؛ بل إنها نتاج التباسٍ مدروس ومقامرة سياسية، وبالتالي فهي غير موثوقة.

تستند سردية الحكومة الاحتفائية هذه، في نهاية المطاف، إلى أساسٍ متزعزع، ولاسيما على ضوء المشهد الاقتصادي والاجتماعي القاتم في البلاد، والفساد المستشري، والتشنّجات المجتمعية القائمة. وقد استغلّ المتطرّفون العنفيون هذه المحن في السابق.

المشهد السياسي الاجتماعي والديني

موريتانيا بلادٌ صحراوية شاسعة مع عدد قليل من السكّان يناهز نيفاً وأربعة ملايين، وترزح تحت وطأة مجموعة كبيرة من المشكلات الاقتصادية الاجتماعية وحكمٍ سلطوي، مايجعلها عرضةً إلى عدم الاستقرار والعنف الجهادي. نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة هي أكثر بقليل من 50 في المئة.5 وعلى الرغم من وفرة الموارد – خام الحديد، والغاز الطبيعي، والموارد السمكية وغيرها الكثير – تشغل موريتانيا راهناً المرتبة الـ159 من أصل 189 بلداً في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية.6

على الصعيد السياسي، لطالما عرفت موريتانيا ظروفاً قمعية، واضطهاداً للصحافيين والنشطاء، وتدخلاً عسكرياً. تصف مؤسسة فريدوم هاوس البلاد بأنها “غير حرّة” وتصنّفها في أدنى مراتب الحقوق المدنية والسياسية.7 ويرى مراقبون دوليون ونقّاد محليون في الانتخابات الرئاسية الموريتانية – التي ستُجرى في دورتها الأحدث هذا العام – مجرد واجهة للإبقاء على حكم زمرةٍ صغيرة من النخب العسكرية والتجارية، التي يستشري الفساد في صفوفها. وتُصنّف منظمة الشفافية الدولية موريتانيا في المرتبة 144 من أصل 180 بلداً في مدركات فساد القطاع العام.8

تنطبع موريتانيا أيضاً بطبقية إثنية-لغوية وعِرقية حادة. وخط الانقسام الأساسي، الذي يؤثّر في الحياة السياسية والاقتصادية، هو بين طبقة نخبوية كانت تقتني عبيداً في السابق، وتُعرَف بالبيضان – أي البرابرة العرب الذين يُسمّون أيضاً “المغاربة البيض” – والحراطين، أي العبيد السابقين والمتحدّرين منهم (يُعرَفون بـ”المغاربة السود”)، والذين لم يحصلوا على حريتهم إلا مع الإلغاء الرسمي للعبودية في العام 1981. العبودية كقضية وتاريخ، لازالت تثير خلافات عميقة في موريتانيا اليوم، حيث يقول نشطاء الحراطين ومنظمات حقوقية خارجية إن ممارسات العبودية لاتزال قائمة حتى الآن.9 يُشكّل البيضان والحراطين 70 في المئة من السكان؛ وتتألف نسبة الـ30 في المئة المتبقّية من إثنيات أفريقية-موريتانية تتحدّر من الجنوب.10 تسود التشنجات العلاقات بين هذه المجموعات بسبب الفوارق الطبقية والتجاذبات الإثنية-اللغوية، فضلاً عن المرارة المستمرة منذ وقت طويل بسبب كلٍ من تطهير الضباط العسكريين السود في العام 1987، والعنف الطائفي على جانبَي الحدود مع السنغال في العام 1989، وحملات القمع التي شنّتها الدولة لاحقاً ضد الموريتانيين السود. وقد ساهمت الحكومات المتعاقبة بقيادة ضباط عسكريين في الخدمة أو سابقين، في تفاقم الانقسامات عبر تركيز الثروات في أيدي شبكات رجال الأعمال التابعة للبيضان النخبويين، واستمرار الفساد، والنظام التعليمي المتداعي.11

يمكن اعتبار العنف الجهادي المحلي في موريتانيا، في جوهره، بمثابة رد فعل على العوامل الداخلية التي تزداد سوءاً، وتتمثّل في التصدّعات الديمغرافية والبؤس الاقتصادي الاجتماعي والفساد وسياسات الأنظمة العسكرية المتعاقبة التي أغلقت الفضاء السياسي أمام التيارات الإسلامية وحرية التعبير. لكن على الصعيد الإيديولوجي، استندت الجهادية القتالية إلى التقاليد الإسلامية المخضرمة في البلاد،12 وتحديداً إلى الجوانب التي يتّصف بها مايُعرَف بالسلفية، أي النسخة المحافظة والمتمسّكة بالنصوص الحرفية. تعود السلفية في موريتانيا إلى قرون خلت، غير أن مظاهرها الحديثة حظيت بزخم جراء تدفّق الأموال السعودية والخليجية بدءاً من ستينيات القرن العشرين فضلاً عن سفر أعداد متزايدة من الطلاب إلى الخليج في إطار مسارٍ انطلق فعلياً قبل عقود من الزمن خلال الحقبة الاستعمارية.13 غير أن السياق السياسي الاجتماعي المحلي في موريتانيا والممارسات الإسلامية المحلية المنشأ ساهمت في قولبة هذه التأثيرات.14 وعلى وجه الخصوص، طُبِعت السلفية ومظاهرها القتالية بتراث التعاليم والمدارس الإسلامية في البلاد، والذي ساهم إلى حد ما في التخفيف من حدّتها. وقد حظيت المعارف الدينية تاريخياً بمكانة اجتماعية رفيعة.15 علاوةً على ذلك، للبلاد تقليدٌ قوي من الفقه المالكي يعود إلى زمن المرابطين، وهي سلالة بربرية حكمت المنطقة الواقعة غرب المغرب العربي والأندلس في القرن الحادي عشر.16 وعلى امتداد القرون، أبقت طبقة الزوايا الموريتانية على التقاليد الفقهية المالكية. وهذه الأخيرة هي شبكة قبلية من شبكات البيضان وصفها علاّمة موريتاني بأنها “مجموعة احتلالية” ذات جذور بربرية تعود إلى ماقبل العصر الحديث وتعتبر نفسها ضامِنة المعارف الدينية والروحانية.17

لكن لعل المؤسسات الدينية الأكثر فرادة ونفوذاً في موريتانيا في الزمن المعاصر – والتي تمارس تأثيرات مهمة على استراتيجية مكافحة الإرهاب – هي المدارس الإسلامية المعروفة بالمحاظير (مفردها محظرة)، والتي غالباً ماتوصَف في الصحافة بـ”المعاهد الدينية الصحراوية”.18 تؤمّن هذه المدارس التي انطلقت مع البدو في الصحراء والتي تعود، وفق ماأُفيد، إلى حقبة سلالة المرابطين، تعليماً إسلامياً مجانياً للذكور والإناث، بدءاً من سنّ السادسة أو السابعة وصولاً إلى العشرينات من العمر.19 يشمل التدريس القرآن والحديث والفقه، فضلاً عن قواعد اللغة العربية والمنطق وعلم الحساب والبلاغة والأدب.20

كذلك استقطبت المحاظير، التي لم تستوفِها الدراسات حقها والتي تُحيط بها معتقدات كثيرة لاأساس لها من الصحة، طلاباً أجانب من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، الذين انجذب بعضهم إلى رؤية مثالية عن التقشّف الصحراوي تنسجم جيداً مع نظرتهم إلى الإسلام خلال حقبة النبي محمد والصحابة.21 إذن، شكّلت المحاظير محفلاً مهماً لاختلاط تيارات إسلامية مختلفة، ومنها شخصيات أصبحت لاحقاً أعضاء رفيعي المستوى في تنظيم القاعدة وغيره من المجموعات الجهادية، وعددٌ كبير منهم جاء من الجزائر وليبيا.22 وهذا ما دفع الحكومة إلى بذل جهود حثيثة بدءاً من العام 2005 لتنظيم المحاظير والإشراف عليها، بما في ذلك تسجيل الطلاب وتتبّعهم والتدقيق في المناهج الدراسية، في إطار ماأسماه أحد وزراء الشؤون الإسلامية السابقين: “السيطرة والاحتواء”.23

صعود المعارضة الإسلامية

تطوّر التحدي الجهادي الحديث في موريتانيا انطلاقاً من هذه الخلفية المتمثّلة بالتقليد الإسلامي والتغييرات الديمغرافية والاقتصادية والسياسية الأكثر حداثة، بما في ذلك السلطوية المتنامية وصعود الإسلام السياسي. في سبعينيات القرن العشرين، تسبّبت موجات الجفاف الشديد في المناطق الريفية بالانتشار السريع للتمدين. وقد أتاح التفكّك الذي أحدثه هذا التحوّل، فرصاً جديدة أمام تمكين إيديولوجيات كان من شأنها تحدّي الهرميات المتجذرة، ولاسيما في صفوف الوافدين الجدد إلى المدن الذين غالباً ماكانوا يفتقدون إلى الرأسمال الاجتماعي.

في البداية، حققت المجموعات اليسارية بعض النجاح لدى هؤلاء الأشخاص المقتلَعين من جذورهم، ولاسيما في العاصمة، لكن بحلول أواخر السبعينيات، تقدّمت الجماعات الإسلامية الصفوف للحلول مكانها.24 وقد ساهم تدفّق التمويل الخليجي للمساجد والمؤسسات الخيرية والمعاهد، بدءاً من أواخر الستينيات، في صعود هذه الجماعات، فضلاً عن برنامج منسَّق للعربنة والأسلمة اعتمده الحكّام العسكريون الذين تعاقبوا على إدارة شؤون البلاد.25 وبحلول منتصف الثمانينيات، كانت تيارات إسلامية عدّة قد تجذّرت في البلاد، وكان أقواها الإخوان المسلمين وجماعة الدعوة والتبليغ والسلفيين، الذين عزّزوا نشاطهم في السياسة والحراك غير العنفي، ولاسيما ضد الفساد.26 لكن سرعان مااصطدمت هذه التيارات بالدولة.

تعاطى الحكّام الموريتانيون، وعددٌ كبير منهم ضباط عسكريون في الخدمة أو سابقون، مع الإسلاميين عبر اللجوء إلى خليط من الاستيعاب والتنظيم والقمع بهدف تدعيم شرعيتهم المترهِّلة منذ أًصبحت البلاد جمهورية إسلامية في العام 1960.27 ويكتسب حكم العقيد معاوية ولد الطايع أهمية خاصة في هذا الإطار، ولاسيما في سياق العنف الجهادي. فقد انطبع حكمه، من العام 1984 (عندما استولى على السلطة في انقلاب) إلى العام 2005، بعلاقات متقلّبة مع الإسلاميين والسلفيين، تراوحت بين الدعم والتوقيفات والعفو، ما ساهم ربما في جنوحهم نحو مزيد من التطرّف. وقد أعلن الطايع، تحت تأثير الضغوط التي مارسها عليه المجتمع الدولي لتبنّي الديمقراطية، عن تطبيق نظام انتخابي متعدد الأحزاب في العام 1991. لكن تبّين أنها مجرد خطوة وهمية. فمع اتّساع نشاط الإسلاميين، وخصوصاً السلفيين، فُرِضَت قيودٌ إضافية.28

في العام 1991، عمد الطايع إلى تشديد قبضة الدولة على رجال الدين عبر إنشاء هيئة إشراف دينية، بموجب الدستور، أُطلِق عليها اسم “المجلس الإسلامي الأعلى”.29 وفي العام 1992، رفض الإقرار بجهود الإسلاميين الهادفة إلى تشكيل حزب سياسي بذريعة أن البلاد هي أصلاً جمهورية إسلامية.30 وفي العام 1994، بعد الانتخابات البلدية الأولى في موريتانيا، حيث فاز الإسلاميون وسواهم من المعارضين في 17 دائرة انتخابية من أصل 208، اتخذت الحكومة إجراءات أشد قسوةً، فاعتقلت أعداداً كبيرة من الأشخاص وحظرت العديد من الجمعيات والنوادي الإسلامية.31 ووُضِع الإمام محمد ولد سيدي يحيى الذي كان يحظى بشعبية واسعة، في الإقامة الجبرية لفترة وجيزة، فيما تكبّد أئمة آخرون ماهو أسوأ بكثير، بما في ذلك الترحيل والسجن، ومايُحكى عن تعذيبٍ تعرّضوا إليه، ولم يُفرَج عنهم إلا بعد إدلائهم باعترافات عبر التلفزيون الرسمي.32

غير أن الإسلاميين لم يذعنوا إلى الترويع؛ فقد تحوّل كثرٌ منهم ببساطة نحو الأنشطة التربوية والخيرية أو نقلوا تنظيماتهم إلى العمل السرّي.33 وفرّ آخرون إلى الخارج ليعودوا مع تصميمٍ أقوى ضد الحكومة.34 ولجأت أقلية منهم إلى العنف.35

التحدي الجهادي

التحدي الجهادي السلفي الذي انطلق في ظل نظام الطايع وهزّ موريتانيا من العام 2005 إلى 2011، كانت شرارته الوضع الداخلي الذي ازداد سوءاً في البلاد، كما غذّته التطورات الإقليمية. لكنه استمدّ جذوره أيضاً من التقاء مجموعة من الأحداث المحلية والعالمية قبل عقودٍ من الزمن. ففي الثمانينيات، توجّه شبانٌ موريتانيون إلى أفغانستان لمحاربة السوفيات، وتواصلوا في هذا الإطار مع شبكات جهادية عالمية؛ وقد تسلّم عددٌ كبير منهم مناصب عليا في تنظيم القاعدة. يمكن اعتبار أبناء هذا الجيل أسلاف الفوج الأخير من الجهاديين، ووجهه الأشهر هو محفوظ ولد الوليد الذي سيشار إليه لاحقاً باسمه الحربي أبو حفص الموريتاني،36 الذي تحمل دوافعه ومسيرته في الجهاد وخارجه دروساً لفهم مسارات الجهاديين الأكثر عصرية.

الموريتاني هذا المولود في جنوب غرب اليمن هو من قبيلة إداب لحسن التابعة لقبائل الزوايا والتي تشتهر بثقافتها الدينية، وقد تلقّى تحصيلاً علمياً تقليدياً في المحظرة وتخرّج من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية المموَّل من السعودية في نواكشوط.37 سافر الموريتاني الذي ذاع صيته في كتابة الشِّعر، إلى السودان وأفغانستان حيث أصبح مستشاراً قضائياً ودينياً لأسامة بن لادن، ليعود فينفصل لاحقاً عن القاعدة قبل وقوع الهجمات التي استهدفت الولايات المتحدة في العام 2001. وقد اشتبهت الولايات المتحدة في تورّطٍ ما للموريتاني في التخطيط للهجمات على السفارة الأميركية في كل من كينيا وتانزانيا في العام 1998 وعلى المدمّرة الأميركية “يو إس إس كول” في اليمن في العام 2000 – لكنه ينفي هذه التهمة.38 وبعد اعتقاله لفترة معيّنة في إيران، عاد إلى موريتانيا في العام 2012 حيث سُجِن ثم أخلي سبيله.39

شهدت السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين صعوداً جديداً للتعبئة الجهادية. فمثلما أدّى الاجتياح السوفياتي لأفغانستان إلى تعبئة الموريتاني وسواه في السابق، تملّكت الشباب الموريتانيين مشاعر غضبٍ شديدة بسبب الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق ومعاناة المسلمين في فلسطين والشيشان. وقد صبّ الأشخاص الذين لم يتمكّنوا من السفر والقتال في هذه المعارك، جام غضبهم على النظام. في الوقت نفسه، فُتِحت ساحات معارك جهادية جديدة في الساحل والصحراء. وأسفرت امتدادات الحرب الأهلية الجزائرية عن إنشاء الجماعة السلفية للدعوة والقتال التي أصبح اسمها لاحقاً تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.40 وقد شكّل ارتباط نظام الطايع بالحرب التي قادها الغرب على الإرهاب بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر، مادّة قوية لتعبئة المقاتلين ضد النظام. وعلّق إمامٌ سلفي كان سابقاً على ارتباط بالجهاديين على هذه الديناميكية موجِّهاً انتقادات لاذعة إلى “سوق” مكافحة الإرهاب التي اعتبر أن النظام يساهم من خلالها في زيادة التطرّف بدلاً من خفضه. ولفت في هذا الإطار إلى أن “الأشخاص الذين يحاربون الإرهاب يساهمون في توليده”.41

أطلقت المرحلة الأخيرة من حكم الطايع شرارة الهجمات على أيدي الجهاديين. في نيسان/أبريل 2003، شنّ الطايع حملة القمع الأشد ضراوة منذ العام 1994، والتي أسفرت عن اعتقال خمسة وثلاثين إماماً مسلماً وقاضياً وغيرهم من الشخصيات.42 وكان بينهم محمد الحسن ولد الددو، وهو إمام ذو شعبية كبيرة جداً استقطب أتباعاً في صفوف الشباب الموريتاني منذ مطلع الألفية، عبر لجوئه، من جملة أمور أخرى، إلى انتقاد السياسة الخارجية لبلاده، مثل اصطفافها إلى جانب الجهود الأميركية لمكافحة الإرهاب وروابطها الناشئة مع إسرائيل.43

أُغلِقت المساجد والمدارس والمعاهد غير الخاضعة إلى سيطرة الدولة، وهدّدت وزارة الشؤون الإسلامية آنذاك، في خطوةٍ شهيرة، بـ”تحويل المساجد إلى أفران” – في تبجّحٍ شديد الفظاظة تحوّل إلى محل انتقاد من الجهاديين الذين اتهموا نظام الطايع بالهرطقة والرياء.44 وفي السنوات اللاحقة، منحت المحاولتان الانقلابيتان (في حزيران/يونيو 2003 وآب/أغسطس 2004) ذريعةً إضافية للحكومة كي تُطارد الإسلاميين، على الرغم من عدم وجود أدلة عن ضلوعهم في المحاولتَين.45 وقد أشار الجهاديون الشباب لاحقاً إلى أن التعذيب، الذي يُزعَم أن المعتقلين تعرّضوا له، هو من الدوافع خلف موجة العنف التي أعقبت التدابير الحكومية.46

انطلقت تلك الموجة في حزيران/يونيو 2005 عندما اقتحم مايزيد عن 150 مقاتلاً من الجماعة السلفية للدعوة والقتال قاعدةً عسكرية في شمال شرق البلاد، ماأسفر عن مقتل خمسة عشر جندياً موريتانياً. وقد ندّدت الجماعة، في بيانٍ صادر عنها، بارتباط النظام الموريتاني بالحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب، وأعلنت أن الهدف من الهجوم هو “الثأر لإخوتنا الذين سجنهم النظام الآثم في نواكشوط”.47 وفي الأعوام الستة اللاحقة، اهتزّت موريتانيا على وقع أربعة عشر هجوماً نفّذها على أراضيها الفرع المحلي لكل من الجماعة السلفية للدعوة والقتال وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فضلاً عن هجمات عابرة للحدود شنّها التنظيمان انطلاقاً من شمال مالي. وقد هاجم الإرهابيون أهدافاً أجنبية – سفارات وعمّال إغاثة وسياحاً – إلى جانب القوى الأمنية التابعة للنظام.48 كان نطاق العنف وضراوته غير مسبوقَين في البلاد، مادفع بالمراقبين المحليين والخارجيين إلى الإقبال على إجراء مراجعة ذاتية والتفكير عميقاً في المعطيات.

مَن هم الجهاديون؟

المعلومات عن الجهاديين الموريتانيين – المسجونين المشتبه بهم وأولئك الذين تأكّد مقتلهم في الداخل والخارج – مستمدّة من مصادر حكومية ويجب حكماً التعامل معها بحذر. إنما يمكن تمييز وجود أنماط إثنية واقتصادية اجتماعية، إذ وفقاً لأحد المصادر التي يجري الاستشهاد بها على نطاق واسع، بلغت نسبة البيضان نحو 75 في المئة من أصل سبعين شخصاً موقوفاً (بما في ذلك المتّهمون في أعمال عنف وداعموهم)، في حين شكّل الحراطين والموريتانيون الأفارقة 17 في المئة و9 في المئة على التوالي.49 اقتصادياً، كانت أكثريتهم من ذوي الدخل المتوسط أو المتدنّي، وكان معظمهم دون سنّ الثلاثين.50 كانت هناك على مايبدو تجارب مشتركة أخرى تربط بينهم، وتتمثّل في البطالة المقنّعة والانحراف، والخدمة أو محاولة الخدمة في الجيش، والتي أعقبها اعتناق السلفية في مسجد ثم التجنّد والتدريب لخوض الجهاد، عادةً في شمال مالي أو الجزائر، أو بوتيرة أقل في مناطق موريتانية نائية.51 لقد تلقّى كثرٌ منهم تحصيلهم العلمي في المحظرة على الرغم من أن المسؤولين والعلماء ينكرون، وفق ماورد آنفاً، أن يكون هذا الأمر المصدر المباشر للتطرّف أو التجنيد.52 غير أن وجود جهاديين من ليبيا والجزائر ومالي في هذه المدارس دفعَ بالحكومة إلى بذل جهود دؤوبة لمراقبة التحاق الأجانب بها اعتباراً من العام 2005.53

تتضمن مجموعة بيانات أخرى وصلتنا من علاّمة موريتاني على صلة بجهود إعادة التأهيل، واحداً وعشرين جهادياً موريتانياً متوفّياً، لقي أربعة منهم مصرعهم في البلاد والباقون في الخارج. هؤلاء أيضاً كانت أغلبيتهم الكبرى من الشباب الذين تتراوح أعمارهم من سبعة عشر إلى إحدى وعشرين عاماً، وأكثريتهم الساحقة من البيضان (أربعة فقط هم من الحراطين).54 أحدهم هو المدعو أبو عبيدة البصري، 22 عاماً، من الحراطين، وهو منفّذ الهجوم على السفارة الفرنسية في العام 2009 في أول تفجير انتحاري تشهده موريتانيا، والذي كان يُجسّد في شخصه على مايبدو الكثير من القواسم المشتركة بين الجهاديين، ولاسيما التململ الناجم عن التمدين.55 فقد انتقل والداه المنتميان إلى الطبقة العاملة من بلدة دار البركة الصحراوية إلى نواكشوط، حيث قاما بتربيته في حي البصرة القاحل. كان ترتيبه الرابع بين ثمانية أولاد، ولم تكن تنشئته شديدة التديّن، وفقاً لوالدته. وعلى الرغم من أنه لم يتورّط في جنحٍ صغيرة، إلا أن حياته انطبعت في بداياتها بإخفاقات متتالية: فقد فشل مرتَين في نيل شهادة البكالوريا، ولم يُقبَل في الجندرمة في العام 2008.56 وفي العام نفسه، غادر منزله للمشاركة على مايبدو في معسكر تدريبي جهادي في الجزائر أو شمال مالي، استناداً إلى شريط فيديو نشره لاحقاً تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.57

حكاية إخفاقات البصري، والحياة العائلية المضطربة لمشتبه بهم آخرين وضلوعهم في الإجرام، أتاحت للمسؤولين وضع تشخيص مفيد عن الأسباب الجذرية للجهادية، وكانوا غالباً مايُضيفون أن الفهم المغلوط أو “غير الصحيح” للنصوص الإسلامية ساهم في تمكين العنف الجهادي.58 مما لاشك فيه أن هذه الأبعاد النفسية والاقتصادية الاجتماعية والتربوية موجودة، إلا أنه يتّضح من تصريحات العديد من الجهاديين البارزين أن لجوءهم إلى العنف هو أيضاً ذو دوافع سياسية وموجَّه ضد مظالم حقيقية ومعبَّر عنها بوضوح، مثل العلاقات الموريتانية مع الغرب، والحكم السلطوي، والتعذيب والفساد.

يتجلّى هذا البعد السياسي بالوضوح الأكبر في النظرة العالمية التي يُجسّدها الخديم ولد السمان، زعيم إحدى الخلايا المحورية في شبكة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في موريتانيا. كان السمان، وهو من مواليد 1974، يعمل تاجر سيارات مستعملة، والتحق لفترة وجيزة بمدرسة صوفية في السنغال قبل أن يعود إلى نواكشوط. ويُقال إنه كان يعيش حياة بوهيمية حيث كان يتردّد باستمرار على الملاهي الليلية قبل أن يختبر “الصحوة” ويبدأ بارتياد المساجد السلفية. وقد أثار الاجتياح الأميركي للعراق غضبه، فتوجّه إلى شمال مالي، وتلقّى في مرحلة معيّنة توجيهات، وفق ماأُفيد، من قائد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، مختار بلمختار، لإنشاء خلايا سرّية في موريتانيا.59 كان ولد السمان بين الجهاديين الذين طالتهم موجة الاعتقالات في عهد الطايع في العام 2005، وقد فرّ من السجن في العام 2006 إنما أُلقي القبض عليه من جديد في العام 2008.60 وأشار، في مقابلة معه في العام 2006، إلى دوافعه، ومنها التهديد المفسِد الذي يلحقه التأثير الأجنبي بالتوحيد، والدور الواسع النطاق للاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، والحاجة إلى تحرير أراضي المسلمين من الكفّار، وخصوصاً التعذيب الذي يتعرّض إليه الأئمة الموريتانيون.61 وكان للتمييز الذي يمارسه النظام بحق المواطنين في جنوب البلاد حيّزٌ كبير أيضاً في اتّهامات التعذيب.62 (لسخرية القدر، عددٌ كبير من الأئمة الذين أتى ولد السمان على ذكرهم استُخدِموا لاحقاً ضده في إطار برنامجٍ لإعادة التلقين العقيدي وإعادة التأهيل نُفِّذ برعاية الحكومة).

الرد الحكومي: الجمع بين القمع والحوار

واجهت الحكومة الموريتانية التحدّي الجهادي عبر اللجوء إلى عدد من الإجراءات “الصلبة” لمكافحة الإرهاب ومنها التوقيفات والمداهمات وتطوير قدرات عسكرية واستخبارية جديدة، وتعزيز السيطرة الحدودية، وزيادة التعاون مع الولايات المتحدة والدول الإقليمية المجاورة على السواء.63 لكنها نقلت المعركة أيضاً إلى مضمار العلوم الفقهية والعقيدة لإقناع الجهاديين المسجونين (فئة واسعة وغير واضحة المعالم تضمّنت الأشخاص الذين ارتكبوا أعمال عنف أو داعميهم أو المتعاطفين معهم)، بعدم شرعية العنف ضد الدولة.64 ومن خلال اتّباع هذه المقاربة “الناعمة” لمكافحة الإرهاب، عبّأت الدولة بيروقراطيتها الدينية عبر تنظيم جلسات طويلة من الحوار والنقاش وإعادة التلقين العقيدي مع الجهاديين، مقرونةً ببرامج لمساعدتهم على إعادة الاندماج في المجتمع عن طريق توسُّط أفراد من العائلة والتدريب على الوظائف.65

الشخصية الأساسية التي استعان بها النظام في هذا المجال هو الإمام ذو الشعبية الواسعة محمد الحسن ولد الددو، كان لأسلوبه المنفتح في التعاطي تأثيرٌ خاص على ولد السمان الذي تردّد إلى مسجد الددو وكان حارساً شخصياً له وفق ماأُفيد.66 لكن الأهم كان التقارب الإيديولوجي. فقد كان انتقاد الددو للحكومة، ولاسيما فسادها واصطفافها إلى جانب الغرب في الحرب على الإرهاب، منسجماً مع المظالم التي يشتكي منها ولد السمان وسائر الجهاديين.67 وساهم دخوله المتكرر إلى السجن في تعزيز مصداقيته.

في العام 2009، عرض الددو، بالاشتراك مع إسلاميين آخرين من حزب تواصل التابع للإخوان المسلمين، المبادرة الحكومية على السجناء، وفق ماأوردت بعض التقارير، وكان عددهم نحو سبعين في ذلك الوقت.68 وتبِع ذلك، في البداية، تبادُل تصريحات في الصحافة المحلية قبل الدخول في حوارٍ وجهاً لوجه في السجن في كانون الثاني/يناير 2010. وإلى جانب الددو، شاركت شريحة كبيرة من الأئمة في جولات متتالية، بينهم شخصيات موالية للحكومة مثل أحمد ولد لمرابط ولد حبيب الرحمن، إمام الجامع الكبير في نواكشوط، وحمدان ولد التاه، أمين عام رابطة علماء موريتانيا.69

وهذا مافعله أيضاً رجال دين تجمعهم روابط أوثق بالجهاديين، مثل أبو حفص الموريتاني وأحمد مزيد ولد عبد الحق، وهو علاّمة سلفي مهم ذو ميول جهادية. تتلمذ ولد عبد الحق على يد الإمام السلفي ذي المكانة المرموقة بداه ولد البصيري، وقد زاول التدريس في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية حيث كان الموريتاني من طلابه. وأسوةً بهذا الأخير، انجذب ولد عبد الحق إلى بن لادن؛ وقد توجّه في أواخر تسعينيات القرن العشرين إلى الخرطوم حيث درّس أبناء بن لادن باللغة العربية إلى حين فرار زعيم القاعدة إلى باكستان وأفغانستان.70 سجنه النظام من العام 2005 إلى العام 2007 على خلفية تعاونه مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. ويُقال إن ولد عبد الحق يعزو التأخر في إخلاء سبيله، بعد الإفراج عن إسلاميين آخرين، إلى رغبة النظام في استخدام السجناء السلفيين بمثابة أداة للمقايضة مع الغرب.71

مع انطلاق الجهود الحوارية الأولى للحكومة مع الجهاديين في العام 2010، انتقد ولد عبد الحق التركيبة الأولية للجان الأئمة معتبراً أنها أوسع نطاقاً من اللازم، كونها تألّفت من صوفيين ومالكيين وأشخاص منتمين إلى الإخوان المسلمين، وسلفيين. لكن الأهم، في رأيه، أنها ضمّت في صفوفها مسؤولين حكوميين سابقين اشتهروا بقمع الإسلاميين.72 وبعد صدور عفوٍ رئاسي في العام 2010 حيث أُخلي سبيل خمسة وثلاثين سجيناً، نجح ولد عبد الحق وآخرون في الدعوة في العام 2012 إلى اعتماد مقاربة مختلفة في التعاطي مع المعتقلين المتشددين، عبر تشكيل لجنة مؤلفة من ثلاثة أشخاص هم ولد عبد الحق والددو وإمام آخر كان مستشاراً رئاسياً وموضع ثقة أيضاً من المعتقلين.73

في الجلسات التي نُظِّمت على امتداد الأيام السبعة عشر اللاحقة، عرض ولد عبد الحق وسواه مجموعة متنوعة من المقاربات في حوارهم مع الجهاديين. وقد بدأوا بالإقرار بأنه حتى في المراحل الأخيرة من الحوار، لم يرتكب الأشخاص الذين أودِعوا في السجون بالضرورة أعمال عنف. ومن الأفكار المحورية التي طرحها الإمام في الحوار “الأمان” الذي يجب منحه للضيوف الأجانب وغير المسلمين داخل موريتانيا – الذين يوصَفون بـ”المستأمنين” – وهذا المفهوم هو سابقة في النصوص الإسلامية. يروي عبد الحق أنه قال للمعتقلين: “عندما يُقاتلنا كافرٌ، اقتلوه. أما إذا دخل البلاد بطريقة سلمية مع تأشيرة سفر، فلا يمكنكم قتله”.74 وقال لهم أيضاً إنه من المشروع المطالبة بتطبيق الشريعة في البلاد، إنما ليس مشروعاً استخدام العنف للتعبير عن هذا المطلب. وتدعيماً لهذه الحجج، لم يستعن فقط بالقرآن والحديث إنما أيضاً بمفكّرين أكثر عصرية بعضهم عقائديون جهاديون سابقون. ومن بين هؤلاء استشهد بالعقائدي السوري البارز عبد المنعم مصطفى حليمة (المعروف أيضاً بأبو بصير الطرطوسي) الذي شكّلت إدانته للهجمات الانتحارية التي نفّذها تنظيم القاعدة في لندن منعطفاً أساسياً في النقاشات الفقهية الجهادية عن قتل المدنيين.75 وطرح الطرطوسي، على وجه التحديد، مفهوم “عهد” الأمان بين المسلمين المقيمين في بلدان غير إسلامية وغير المسلمين المقيمين في دول إسلامية.76

تكررت هذه المواضيع على لسان إمامٍ سلفي محترم آخر انضمّ إلى الجولات الأخيرة من الحوار بعد الإفراج عنه من السجن. وقد أقرّ، في مقابلة معه في مطلع العام 2018، باستياء الجهاديين من الفساد ورغبتهم في الخضوع إلى حكم الشريعة الإسلامية، قائلاً: “يريد المسلمون أن تحكمهم ديانتهم؛ هذا ليس تطرّفاً”.77 لكنه قال للسجناء الجهاديين إنه من غير المسموح استخدام القوة للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإن الحكومة، على الرغم من كل عيوبها، أتاحت الفرصة للمطالبة بفرض الشريعة الإسلامية.78

هل تكللت جلسات الحوار بالنجاح؟ عندما حصل خمسة وثلاثون سجيناً على العفو في العام 2010، أجاب مهندسو البرنامج في الحكومة والأئمة الداعمون له جازمين بأن الحوار قد نجح.79 لقد قسمت فكرة الحوار بحد ذاتها السجناء إلى مجموعتَين، واحدة رحّبت بالوساطة والثانية عبارة عن مجموعة أكثر عدائية ومشاكسةً بقيادة ولد السمان.80 وكان هذا الأخير شديد التحدّي؛ فقد ارتدى في إحدى الجلسات قميصاً أبيض رسمَ عليه قنبلة يدوية ورشاشاً مع كلمة “القاعدة”.81 ووجّه رسائل إلى الددو وولد عبد الحق اتّهمهما فيها بخيانة العقيدة السلفية، وحشدَ حوله مجموعة من الأئمة – معظمهم من السعودية واليمن والأردن – لرفض دعواتهما للاعتدال والحراك السلمي.82

ثمة محاذير أخرى أبعد من عناد بعض الجهاديين، يجب التوقف عندها في مايتعلق بنموذج الحوار الموريتاني. أولاً، أظهر النظام حذراً منذ البداية بشأن الأشخاص الذين اعتبرهم قابلين للإصلاح. فالمعايير التي استُخدِمت في اختيار السجناء الذين سيتم الإفراج عنهم، كانت غير شفّافة في معظم الأحيان، أقلّه وفقاً للأئمة المشارِكين في الحوار. وقد أوصى الددو والأئمة التابعون له، في ختام الجلسات الأولى، بإخلاء سبيل الأشخاص الذين لم يشاركوا في العنف، وتخفيف العقوبات المفروضة على الباقين. ويُقال إن الددو صُدِم عندما صدرت، بدلاً من ذلك، أحكامٌ بالسجن لفترات طويلة وأحكام بالإعدام.83 لم تُنفَّذ الأحكام حتى تاريخ كتابة هذه السطور، إلا أنها تُظهر أن المقاربة “الناعمة” ترافقت على الدوام مع إجراءات عقابية منها السجن، وكذلك التعذيب على مايُقال.84

ثانياً، لم تكن إعادة دمج السجناء السابقين متكافئة بحسب التقارير. فقد ذكرت وسائل إعلام محلية أن الحكومة منحت تمويلاً صغيراً لكل واحد من المعتقلين الذين أُطلِق سراحهم بموجب عفو، كي يؤسّسوا مشاريعهم الخاصة لتوليد المداخيل، مثل بيع بطاقات تشريج الخطوط الخلوية، وشراء السيارات وتصليحها وبيعها.85 لكن نقلاً عن أحد السجناء الذين أُخلي سبيلهم وعن إمامٍ شارك في الحور ولايزال على تواصل مع سجناء سابقين، لم تنفّذ الحكومة وعودها بتأمين وظائف مستدامة للشباب.86ويزعم النشطاء الحقوقيون أن الحكومة تمنع الأشخاص الذين لازالوا في السجون من الحصول على الوثائق الثبوتية، مايحول فعلياً دون تمكُّن أولادهم من الالتحاق ببعض المدارس ومن الإفادة من الرعاية الطبية في الخارج.87 وفي صدىً لهذا الكلام، قال الإمام ولد عبد الحق، في مقابلة حصرية معه في العام 2015، إن بعض أقسام الحوار حول السجون منيت بالفشل، مشيراً إلى أن غياب المتابعة من جانب الحكومة هو إحدى الشوائب العديدة في هذا الإطار. لكنه أقرّ بأن هذا المسعى ساهم في كبح التجنيد في صفوف الجهاديين.88

لم تشهد موريتانيا، منذ نحو عقدٍ من الزمن، هجوماً إرهابياً كبيراً على أراضيها – وهو تحوّلٌ لافت في ضوء موجة العنف التي ضربت البلاد من 2005 إلى 2011. إنما لاتزال تُطرَح أسئلة حول ديمومة السلام، فضلاً عن ثمنه. والأشهر في هذا السياق هو ماتُلمّح إليه وثيقة مؤرّخة في آذار/مارس 2010 عُثِر عليها في المجمّع السكني حيث كان يُقيم أسامة بن لادن أثناء الغارة التي نفّذتها قوات العمليات الخاصة الأميركية في العام 2011، والتي تُشير إلى اتفاق مقايضة بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والحكومة الموريتانية. ففي مقابل الإفراج عن سجناء التنظيم وتسديد رسوم للمقاتلين، يوافق تنظيم القاعدة على وقف الهجمات على الأراضي الموريتانية.89 وماساهم في تعزيز هذه الشكوك هو الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة الموريتانية في العام 2015 عبر الإفراج عن سيدي محمد ولد محمد ولد بوعمامة، المتحدث سابقاً باسم تنظيم أنصار الدين، أحد فروع القاعدة في مالي، ما حيّر عدداً كبيراً من المراقبين.90 غير أن الحكومة الموريتانية وشخصيات مقرّبة من القاعدة نفوا أن يكون هناك أي اتفاق بين الجانبَين. في كل الأحوال، لم يُفرَج عن عدد كبير من السجناء المتشددين المنتمين إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ومنهم ولد السمان.91

الاحتمال الأكثر ترجيحاً هو أن الحكومة اتّبعت نهج الالتباس المدروس في سياستها الخارجية والداخلية كوسيلة لتنفيس الضغوط وتحصين نفسها من الانتقادات الجهادية. من الأمثلة الأساسية عن هذا النهج ماحدث خلال التدخل العسكري بقيادة الفرنسيين شمال مالي في العام 2013، ضد تحالفٍ من الجهاديين وانفصاليي الطوارق. وقد شكّلت الحملة التي أُطلِق عليها اسم “عملية سرفال”، مصدراً رئيساً للنقاش المجتمعي وللمعارضة من الأئمة في موريتانيا.92 وعلى وقع هذه الحملة، أصدر تسعة وثلاثون إماماً موريتانياً فتوى أدانوا فيها التدخّل واصفين إياه بأنه حملة استعمارية جديدة، وحضّوا المواطنين – إنما ليس الحكومة مباشرةً – على التضامن مع إخوتهم المسلمين في مالي. أبعد من هذا البيان، انضمت أصواتٌ عدّة إلى جوقة الإدانة، منها حزب تواصل التابع للإخوان المسلمين والإمام الددو.93

على الرغم من أن الحكومة الموريتانية تدخّلت في مالي في العامَين 2010 و2011 لمطاردة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، إلا أنها اختارت عدم الالتحاق بعملية سرفال في العام 2013. وركّزت بدلاً من ذلك على تحصين حدودها مع مالي الممتدة على طول 2237 كيلومتراً، في إطار سياسة الاحتواء الدفاعي أسوةً بالسياسة المتَّبعة من جانب الجزائر.94ليس واضحاً إذا كان ذلك مرتبطاً بضغوط محلية مارسها رجال الدين؛ غير أن هذه الضغوط كانت، في أقل تقدير، واحداً من عوامل كثيرة أثّرت في حسابات الحكومة. ولايمكن استبعاد أن يكون امتناع الحكومة عن التدخل في مالي أحد الأسباب خلف إحجام تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي عن شنّ هجمات على الأراضي الموريتانية. وهذا السبب أتى على ذكره إمام موريتاني نافذ ومقرَّب من الجهاديين في مقابلة معه العام الماضي، قائلاً: “لم يهاجم الموريتانيون مالي، لكن تشاد والنيجر وبوركينا فاسو فعلت ذلك، فتعرّضت إلى الهجمات”.95 كما أن جاذبية مالي كساحة معركة استقطبت اهتمام الشباب الذين كانوا، لولا ذلك، ليصبّوا جام غضبهم ربما على النظام – على الرغم من أن كثراً منهم انجذبوا، وفق ماأُفيد، إلى مالي بفعل الروابط القبلية العابرة للحدود بقدر ماجذبتهم إليها أيضاً الإيديولوجيا الدينية.96

إلى جانب هذا الالتباس في السياسة الخارجية، سمحت الحكومة الموريتانية للمنظمات الإعلامية في البلاد بأن تكون بمثابة أدوات لنقل الرسائل الجهادية. لقد أمّنت هذه الوسائل الإعلامية منصّات للمجموعات الجهادية الإقليمية لنشر تصريحاتها وبياناتها، في حين قدّمت في الوقت نفسه تقارير وأفكاراً حصرية ذات قيمة كبيرة للباحثين في شؤون مكافحة الإرهاب.97ربما يعكس ذلك، في جزء كبير منه، نفعية وانتهازية من جانب التنظيمات الجهادية الساحلية، فبعض المتحدّثين باسم هذه التنظيمات هم من الجنسية الموريتانية. كما أن الوسائل الإعلامية تستخدم هذا المنفذ الذي تتيحه للجهاديين إثباتاً على استقلاليتها وحرصها على تغطية أخبار التيارات الجهادية.98 لكن مع ذلك، يُشير هذا التساهل إلى أنه ربما كانت هناك أيضاً درجة معيّنة من الموافقة من جانب الحكومة الموريتانية.

لقد أفسحت الحكومة مجالاً أمام بعض رجال الدين من ذوي الصوت المرتفع ليواصلوا التكلّم والخطابة، شريطة ألا يتجاوزوا بعض الخطوط الحمراء مثل الدعوة إلى اللجوء إلى العنف ضد الحكومة. على سبيل المثال، تمكّن الإمام محمد سالم ولد محمد الأمين، المعروف أيضاً بالمجلسي،99 من مواصلة عرض أفكاره المتشدّدة عن الديمقراطية، ولاسيما عن الجهود الأميركية للقضاء على الإسلام من خلال مشاريع مثل “الإسلام الديمقراطي”،100 فضلاً عن انتقاده للاستعمار الحديث.101 كما أنه وجّه انتقادات إلى إمام الجامع الكبير في نواكشوط المعروف بولائه للحكومة.102 وفي العام 2015، أوقِف لفترة وجيزة للاشتباه في دعمه للتنظيم المسمّى الدولة الإسلامية.103 وعلى الرغم من الإفراج عنه، يواصل دوره التحريضي.

يحظى أبو حفص الموريتاني، على وجه التحديد، بهامشٍ معيّن من حرية التحرك. لقد تحدّث بطريقة إيجابية عن الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي، لكنه انتقد المحاولات التي يبذلها الجهاديون للإطاحة بالحكومات المسلمة وأعرب عن إدانته لتنظيم الدولة الإسلامية. وفي مايتعلق بالسياسة الموريتانية، يُقدّم نفسه في صورة معارِض موالٍ ومتمسّك بالمبادئ. فقد انتقد مثلاً، في مطلع العام 2018، الدعوة التي وجّهتها الحكومة إلى إمام الجامع الأزهر في مصر لحضور مؤتمر عن التصدّي للتطرف في نواكشوط.104

يُسمَح لهذه الشخصيات بإبداء بعض الحدّة في مواقفها إنما ضمن حدود ماتُجيزه الحكومة وتحظره. لقد أشار أعضاء الحكومة الداعِمون لهذا المزج بين الإكراه والاستيعاب إلى أنه ساهم في جعل إيديولوجيا الجهاديين العنفيين بلا أسنان، تاركاً إياهم من دون مرشد روحي. قال أحدهم: “الجهاديون بلا رأس”.105

على الرغم من ذلك، يُطرَح السؤال، إلى أي حد اعتدال الأئمة مؤقّت وتكتيكي؟ وخير مثال على ذلك ماحدث مع الإمام البارز محمد ولد أحمد زاروق (المعروف أيضاً بالشاعر”)، الذي اعتبر خادم ولد السمان في العام 2006 أن وجوده في السجن هو من الأسباب التي تغذّي شعوره بالضيم حيال الحكومة. في العام 2009، كتب زاروق رسالة تخلّى فيها عن القتال ضد الحكومات المسلمة، إنما فقط لأنه غير عملي وليست لدى الجهاديين حظوظ بالفوز. لكنه لم يتخلَّ مطلقاً عن الجوانب الإقصائية والمتشدّدة الأخرى في الإيديولوجيا الجهادية، ولاسيما موافقته على التكفير.106

خلاصة: المخاطر المحدقة

بلغ العنف الجهادي في موريتانيا ذروته القصوى، ثم بدأ بالانحسار بعدها، ويبدو أنه جرى احتواؤه من خلال مزيجٍ من الإكراه والاستيعاب. وفي غضون ذلك، يبدو أن الاندفاعات السلفية باتجاه الحِراك السياسي والسياسة الحزبية كُظِمت أيضاً؛ فقد قال الإمام السلفي أحمد مزيد ولد عبد الحق في مقابلة معه إن السلفيين لايمتلكون الرأسمال المادّي أو البشري لإنشاء حزب.107 وهكذا يبدو أن السلفية في البلاد تقتصر على قطبَين اثنين يتمحور كلٌّ منهما حول الخطابة غير العنفية والإعلام: قطب أوّل موالٍ للحكومة ويتجسّد في شخص إمام الجامع الكبير، أحمد ولد لمرابط ولد حبيب الرحمن، وقطب ثانٍ أكثر حراكاً وانتقاداً يُجسّده أبو حفص الموريتاني والمجلسي، وهو استفزازي لكنه يحترم الخطوط الحمراء التي وضعها النظام.

إنما يجب التعامل بحذر مع النزعة الانتصارية للحكومة. فموريتانيا لاتزال غارقة في الفساد والفقر. والمناطق الواقعة عند الأطراف والحدود، التي تُشكّل معاقل الجزء الأكبر من النشاط الجهادي، بحاجة ماسّة إلى التنمية.108 لقد أسفر اكتشاف الغاز في المياه عند الحدود مع السنغال مؤخراً عن تدفّق الاستثمارات الخارجية المباشرة، ماساهم في إحياء الآمال بحدوث تحسّن اقتصادي.109 غير أن بعض المراقبين الموريتانيين يتساءلون في مجالسهم الخاصة عما إذا كانت الأموال ستصل إلى الشعب، نظراً إلى فساد الحكومة وافتقارها إلى الشفافية.110 في المقابل، يمكن أن يُشكّل الكسب المادّي الكبير والمفاجئ مادّة جديدة يستخدمها الجهاديون لانتقاد الحكومة: فقد يحاول تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تصوير الاستثمارات بأنها تشكّل اعتداء على سيادة البلاد.

يُضاف إلى ذلك لجوء نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي فاز في الانتخابات في العام 2009 ومجدداً في العام 2014، بصورة متزايدة إلى النزعة السلطوية وقمع حرية التعبير.111 ففي كانون الثاني/يناير 2019، بدا أن ولد عبد العزيز يدحض الشائعات التي تحدّثت عن سعيه للترشح لولاية رئاسية ثالثة، وذلك عبر دعمه لترشّح وزير الدفاع محمد ولد الغزواني الذي هو من الموالين المخضرمين له، للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها لاحقاً هذا العام. وقد رأى مراقبون للشأن الموريتاني أنها خطوة فيها حنكة الهدف منها أن تحافظ زمرة النخبويين التابعة للرئيس والمستمدة من حزب الاتحاد من أجل الجمهورية على قبضتها على السلطة – فضلاً عن الإبقاء على تقليد التأثير العسكري على السياسة.112 وفي إطار التحضير للانتخابات، اتخذ ولد عبد العزيز أيضاً إجراءات لقمع الإسلاميين، ومنها مثلاً إقدامه في أيلول/سبتمبر 2018 على إقفال مركز تكوين العلماء بإدارة الإمام الددو، على خلفية اتهامه بترويج التطرّف: فقد قال ولد عبد العزيز، في خطاب ألقاه أمام استعراض عسكري، إنه من الضروري الحفاظ على إسلام “صحيح” في مواجهة التشويهات من قبل الإخوان المسلمين.113 من شأن الاستمرار في إغلاق المساحة السياسية أمام الإسلاميين وزَجّ أئمة مرموقين على غرار الددو في السجن مستقبلاً أن يُلهم كادراً جديداً من المقاتلين الموريتانيين، بما يؤدّي إلى تكرار دورةٍ من دورات الماضي.

يشي كل ماتقدّم بأن شبح الجهادية العنفية لم يتبدّد. مما لاشك فيه أن موريتانيا ليست قاعدة لتنظيم الدولة الإسلامية، على الرغم من التكهنات التحذيرية في هذا الصدد. كما أن نسبة الشباب الموريتانيين الذين يلتحقون بالجماعات الجهادية في الخارج تراجعت في الأعوام الماضية.114 غير أن الأطراف الجهادية تستمر في استغلال وسائل الإعلام غير الخاضعة للتنظيمات، وتستخدم أراضي البلاد بمثابة ممرّ وقاعدة لوجستية.115 لايزال صعود تنظيم القاعدة مجدداً في مالي وبوركينا فاسو تهديداً قائماً بقوة، على ضوء البيان الصادر عن التنظيم في أيار/مايو 2018 والذي حضّ فيه على شن هجمات ضد الأجانب في الساحل. كما أننا نشهد تبدّلاً في موقف موريتانيا التي أبدت لفترة طويلة تحفّظاً في شن عمليات عسكرية طويلة الأمد خارج أراضيها، وهو ماساهم ربما في جعلها بمنأى عن الهجمات الجهادية. ويتمثّل هذا التبدّل على وجه التحديد في إقدامها مؤخراً على تعزيز حضورها الإقليمي في مجموعة دول الساحل الخمس – وهي عبارة عن ائتلاف إقليمي معني بشؤون الأمن ومكافحة الإرهاب ومؤلَّف من خمسة بلدان ساحلية يواجه صعوبات في التنظيم وتأمين الموارد.116وبالتوازي مع العمليات المستقبلية عبر الحدود، من شأن هذا الدور المتنامي أن يمنح الجهاديين الذين تنصبّ جهودهم على موريتانيا، اندفاعة ترويجية جديدة.117

لكن في الوقت الراهن، لايزال من غير الواضح ماإذا كان المقاتلون سيتحرّكون في موريتانيا وكيف سيكون تحرّكهم. مايبدو مؤكّداً هو أن انحسار العنف في مرحلة مابعد العام 2011 قد لايدوم إلى مالانهاية.