العلامة الشيخ اشفغ انجبنــان بن محمذن الشنقيــطي (1060هـ ـ 1160هـ )002

عاش المختار المشتهر بأتشغ انجبنان بن محمذن في الحقبة الممتدة ما بين  1060 ـ 1160 هجرية تقريبا، قبره ببئر العجوز بضع خطوات جنوب غرب ضريح ولي الله أحمد بازيد.

هو مجدد قرنه بشهادة الشيخ محمد المامي في الدلفين حيث احتج بسكوته عن زكاة مال الأتباع في زمن “السيبة”، في قصيدته المشهورة حيث قال:

ولم يولف لانجبنان فيه على                تجديده ألف هاو ولا نون

لعب انجبنان دور المعلم الكبير والمؤلف ذي العطاء الكثير ـ كما يقول محمذن ولد باباه في مقدمة عن انجبنان على كتابه “أس الإسلام”، حيث يواصل:

“كان يعيش في وسط بدوي متنقل بالطبع بحثا عن الكلإ ونقط الماء النادرة في لف ودوران دائمين تنكبا للصوص، وفي هذه الحالة يصعب على المحظرة أن تحتضن الكثير من الطلاب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قل أن يجمع العالم الشنقيطي بين التعليم والتأليف، وإذا كان هناك استثناء في هذه القاعدة فهو انجبنان الذي تخرج على يده فطاحل العلماء وألف الكتب الجزيلة في شتى الفنون وكان مبدعا رائدا في المجلات التي تناولها. وإذا كان هذا التعتيم المريب طال مؤلفاته، فإنه كذلك همش دوره التعليمي: فلم تذكر كتب التراجم مدرسته إلا بإشارة عابرة، خاصة في موسوعة المختار بن حامدن ـ حياة موريتانيا ـ عندما تعرض لدور ابنه أحمد وحفيده عبد الودود بن عبد الله بن أحمد بن انجبنان 1268/ صاحب المحظرة المشهورة والتأليف النادرة النوع مثل روض الحرون من طرة ابن بونه”.

لا بد والحالة هذه من باب إحقاق الحق وإنصاف المظلومين أن نعيد الأمور إلى نصابها ونبرز دور النجبنان المعلم الكبير. لقد تخرج على يده أولاده الستة الذين مارسوا القضاء في حياته وتسلسل العلم في أحفادهم من أحمد شيخ بلا الشقروي وعبد الله إلى عبد الودود الذي يقول عنه محمد المختار بن اباه “تربى عبد الودود في بيت اشتهر بالعلم والتعليم، من جده انجبنان اتصلت حلقة تدريسه بحفيده الذي كان غاية في الذكاء والدقة في البحث.

وبالإضافة إلى أبنائه تخرج من مدرسة انجبنان محمذن بن الأمين بن المختار المقلب اخيار جد اب، ومن أشهر تلامذة انجبنان أشتغ الخطاط ـ آبيه علما ـ .. قرأ عليه اللغة والنحو والقراءات السبع، ومن أشهر مدرسة آبيه ابنه أحمد محمود الذي انتصب بعد وفاة أبيه آبيه للتعليم فتخرج على يده الكثير من العلماء مثل حامد بن أعمر البارتيلي شيخ محمد بن محمد سالم الغني عن التعريف.

ومن تلامذة انجبنان المختار بن بونه، يقال إنه درس عليه المتمات: التوحيد والمنطق واللغة العربية. ومن المعلوم أن فصيلة المختار بن بونه ـ ازلامطه ـ كان يجمعها وطن واحد بقبيلتي أولاد بوحمد وأولاد أتشغ حيبل، وكان الجميع يتعايش في تآلف وانسجام، إلى أن هاجرت ازلامطه من القبلة، ومما زاد متانة هذه العلاقة نهج المصاهرة المتبع فيما بينهم: تزوج حبيب الله بو أحمد مريم تكره (أي مدينة العلم) عمة انجبنان، وتزوج المصطفى بن بو احمد ميرم أم عيسى بنت  انجبنان وهو بوفمين، وتزوج محمدا بن بو احمد مريم بنت حبيب الرمظانية وولدت له أحمد البدوي، إلخ بحكم هذه الوشائج والتلاقح الثقافي كونت المجموعات الثلاثة نسيجا ثقافيا متكاملا، تلقى ابن بونه معرفته فيه من محمدا بن بو احمد وانجبنان والمختار بن احبيب الجكني، وعبر الشيخ محمد المامي عن هذا التلاحم في الدلفين حيث قال:

وقد ثوى ألف الخطاط بينهــــــم           والأخذ عن جلة الإسلام ميمــــــون

وسار فينا بنوه الغر سيرتـــــــه            في تبع أورقت منه الأغاصـــــــين

وشرطوا آية الغرب ابن بونـــه            فلم ينكر عليه ولا العمش الجواكين

وليس يجهل من في المغربين ثوى        شمسين أفقهما بون وزيـــــــــدون

وفيهم الأحمديون الذين هــــــــم            معالم الخير فينا والمعاديـــــــــن

ولم يولف لانجبنان فيه علـــــى            تجديده ألف هاو ولا نـــــــــــون

وأكد محمد محمود بن اتلاميد صلة ابن بونه بانجبنان في قصيدته المشهورة التي أعدها لإلقائها في المجمع العلمي الذي يقيمه أسكار الثاني ملك السويد والنرويج عام 1306 هـ على صاحبها أفضل الصلوات والتسليم ـ وذلك بأمر من السلطان العثماني عبد الحميد وطلب من ملك السويد والنرويج بواسطة سفيره لدى السلطان العثماني الكونت لاند برج، حيث يقول محمد محمود بن اتلاميد في معرض فخره باكتشافه لصرف عمر وقثم وكلاب وغيرهم من الأعلام :

ولم يشعر المختار منشي احمراره                   لنفع عباد الله من نحوه الطـــــــــــــــم

ولاشيخه انجبنان من كان عنـــده                    له فتح الرحمن في النحو في الحلــــم

ولا ابن ابنه عبد الودود الذي غدا                   له نحوه إرثا صباحا بلا قســــــــــــم

وتأكيدا لتلك الصلة يقول المختار بن بونه لما مر بالميمون قرب بوغبيرة في لبيرات، لما نزل عن راحلته ونبش بعصاه بقايا أخصاص بالية كان درس فيها النحو على شيخه انجبنان قائلا:

تذكرت أياما لنا ولياليا عذابا       عذابا ذكرها حين تذكــــــر

منازل بالميمون بعدي تغيرت     لها منزل في القلب لا يتغيـر

ومن تلامذة انجبنان أيضا سيدي عبد الله بن رازكه، تأكد أنه كان يحضر دروسه القرآنية ويهتم بها اهتماما ملحوظا خاصة في باب التفسير والقراءات (وثيقة مكتوبة بذلك في مكتبة أهل البرا بالتاكلالت)، حيث كان منهج انجبنان في تدريس القرآن مغايرا للبرنامج المعمول به في المحاظر إذ كان يدرس القرآن أصوليا… ويطرح هذا التوجه السؤال عن موقفه من الأشعرية المهيمنة آنذاك على الساحة العقدية والفكرية، وهل هذا هو سر القدر في التعتيم عليه  الذي لا نرى له من مبرر على الصعيدين العلمي والاجتماعي . وهل يكون هذا التوجه نوع من الابتعاد عن الفروع والتأويل والرجوع إلى الأصول ؟ وهل يمكننا على ضوء هذه المعطيات أن نقول إن انجبنان هو رائد الاتجاه المضاد للتأويل الذي سيأخذ زخمه مع لمجيدري بن حبل ؟  (كمال الدين محمذن بن حبيب الله).

ومن تلامذة انجبنان أيضا الصالح العالم متالي والد الشيخ محمذن فال بن متالي، وهو المختار بن أحمد بن أعمر بن أبيجه المتوفى أربع سنين بعد ميلاد ابنه لمرابط محمذن فال بن متالي، وقد أوصى قبل وفاته أن يسمى الإبن الذي سيولد له بعد وافته انجبنان وأن يعق عنه ببقرة نص عليها بذاتها. ويروى عن لمرابط بن متالي أنه قال إن حظه من العلم لا يمثل إلا نسبة قليلة من علم أبيه الذي طغت عليه نزعة الزهد والورع والنسك.

نبغ انجبنان فيما يسمى بعلوم الآلة والفقه والتفسير والقراءات العشر والقضاء وكثير من الفنون الأخرى مثل الحساب السوسي وغيرها مما لم يصل إلينا بالرواية واندرست مؤلفاته مثل “شرح الفتاح على الديلمي” الذي ذكره مع في رسالته على الجيم والجيم المنعقدة”.  ارتضته الناس في زمنه قاضيا وقضى أولاده الستة معه، فكان كلهم يكتب تسليم الحكم بعد حكمه ومن كلامه المروي عنه: “لا يشتكى نجاري ولا يتعقب قاض حكمي” فلربما كان يقصد بالنجار الأصل حيث نسبته القلقمية.

كان على مذهب أهل السنة والجماعة، حفظت له مواقف حاسمة من مشاكل علم الكلام الشائكة مثل كسب الأشعري وخلق الأفعال وغيرها في كتابه “كافي المعتنين من أمور الدين” الذي لم يوجد منه  اليوم بين أيدينا غير نقول حفظت لنا بفضل مؤلف العلامة “اب” محمذن ولد محمد الأمين في كتابه “مناهج الهداة في تعلق الصفات”، وكانت هذه المواقف واضحة مثل “عندها لا بها” أي الأسباب، وغير ذلك…

 تصدى للتفسير وألف فيه “الإتقان في علوم القرآن” الذي يعتبر مفقودا كذلك، وموجود ذكره في رسالة كتبها أحمد محمود بن ابن عفان لخليله في الطلب الشيخ سيديا الكبير بن الهيبة الانتشائي الأبييري، عبر أجوبته لفرقة تلامذة إكلاد، وهذه الرسالة محفوظة بمكتبة أهل الشيخ سيديا ذكرها هارون في كتاب الأخبار حيث يقول فيها إن محمد محمود بن أبن عفان التقى العالم الجليل  سيدي بن انجبنان (الذي ذكره ابن جنكي في المدافن بقوله: وسيدي نجل العالم انجبنان

بجنب ذات الغور باليمان          عم لبيد من قد زانا        مدفنه الغربي من بلشانا)، يقول إن سيدي ابن انجبنان أراه مسألة الاحتباك في تفسير لجده انجبنان وأن أتشغ الخطاط آبيه تلميذ انجبنان.

وقد أقر العلماء ما وصلنا من اجتهاداته مثل أحمد بن العاقل والشيخ محمذن فال بن متالي والشيخ محمد المامي، وسيدي عبد ال بن الفاظل، وكلهم جعله قدوة وحجة.

أسس انجبنان محظرة إن لم نقل هي أصل المحاظر الموجودة على هذا الشكل الذي أدركنا اليوم في  القبلة، فعلى كل حال كانت هي المنهج الجامع المانع في علوم اللغة والفقه وغيرها، … وقد مكث أربعين سنة عند بئر انزران في الصحراء الغربية يدرس ويؤلف ثم انتقل إلى بجدعات المسمى الآن افكيرين قرب أيرش وتنيير، ثم إلى التيكاتن وهو موضع قرية التوفيق الحالي،  ينتجع حيه حتى الميمون قرب بوغبيرة، كما ذكرنا آنفا بموجب أبيات المختار ابن بونه.

وبما أن الموريتانيين يولون اعتبارا  كبيرا لعلوم الآلة، “وآلة بها الشروع…)، فمن نظر في تأليفه الموجودة نسخة واحدة منه لدينا وهو شافي الغليل الجامع بين الخلاصة والتسهيل، ورأى سيره عبر معمعان آراء نحاة المشرق والمغرب بما في ذلك الأندلس (مثل ابن عصفور وابن خروف، وغيرهم…)، واختياراته وترجيحاته ضمن تلك الآراء، علم يقينا أنه لم يتناول النحو بعده إلا بإمداد منه في هذه الربوع التي سيطرت فيها طرة المختار بن بونه، أشهر تلامذته في علم النحو.

فإذا كان انجبنان هو الأب الحقيقي لشيخ النحو بلا منازعة في موريتانيا، أي “الشيخ المختار ابن بونه” الذي ألف الاحمرار المعروف بالجامع للتسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة وهو شيخ بلا الشقروي من جهة الذي شيخه كذلك أحمد بن انجبنان كما ذكر الباحث محمذن ابن باباه في مقدمة على تأليف انجبنان المسمى “أس الأسلام” وهو تحقيق لم يطبع بعد، غير أن نفس التأليف طبع في الإمارات العربية المتحدة دراسة وتحقيق كذلك محمد عبد الرحمن بن محمد مفيد بن اب” جزاهما الله خيرا، فقد ألف كذلك عبد الودود بن عبد ال بن أحمد بن انجبنان الآخذ عن بلا الشقروي كذلك في النحو إضافة إلى أنظامه العجيبة المثرية للطرة المعروفة لديكم جميعا اليوم، تأليفه روض الحرون من طرة ابن بونه ـ كما ذكرنا آنفا ـ الذي وضعه على مقابل الأصح والأظهر عند الشيخ المختار بن بونه، وقد أخذ المشعل بعد عبد الودود تلميذه شيخ النحو الحسن بن زين الذي ألف الاحمرار على لامية الأفعال شيخ سيببويه دهره يحظيه بن عبد الودود، وقد اعتمد الموريتانيون طرة الحسن بن زين على حد السواء مع طرة ابن بونه، وكذلك تمليذ عبد الودود الثاني الذي ليس أقل شأنا في هذا المجال ألا وهو محمد عال بن سيدي المعروف ب:مع، الذي ألف التنبيه على احمرار الشيخ المختار بن بونه وصدر عنهما كثير من المحاظر في المنطقة وغيرها في إكيدي والشمال الغربي حيث سيطر نهج هذه المحظرة التي تميزت عن مثيلاته في التخصص في علوم العربية وحجم التأليف والعطاء الكبير فيها، وقد أثراها العلماء بعد هذا الجيل كابرا بعد كابرا فتشعبت الطرر وفاضت وأثريت بأنظام العلماء إلى اليوم، وليست أم الحواشي مرورا ب”امليويحه” إلا مظهرا من هذا المد والعطاء الذي شارك فيه كل علماء المحاظر اللاحقين تقريبا حتى أدركنا هذا النهج الذي جعل المحظرة الموريتانية جامعة متخصصة بهر خريجوها جامعات العالم الإسلامي من بلاد الحرمين مرورا بالجامع الأزهر وتركيا بالغا إشعاعها الغرب، وليس محمد محمود بن اتلاميد المذكور إلا مثالا من هذا العطاء الذي رد الجميل للعالم العربي والإسلامي وليس تحقيقه للقاموس المحيط للفيروزاباذي الذي لا يمكن أن يستفاد منه في العالم العربي والإسلامي إلا بواسطة هذا الشنقيطي الذي تخرج من نفس المحظرة بالسند المتصل بانجبنان بالوسائط بدءا من شيخه اجدود بن أكتوشني وحرمة ولد عبد الجليل والمختار بن بون.

لذا، فإن انجبنان المعلم الكبير، يحتاج الباحثون إلى التعميق في نفض الغبار عن متروكه المحظري العظيم، مما يجعل مقاطعة واد الناقة مصدر إشعاع باهر تجاوز إلى مقاطعات الولاية الأخرى والولايات الوطنية وحدود بلاد شنقيط.

كلمات مفتاحية:انجبنان شناقطة علماء مالكيون موريتانيون تاريخ المغرب العربي الشعر ادباء فقه شريعة