أخبار عاجلة
الرئيسية / آخر الأخبار / الرّواية التّاريخيّة..!! ( مقاربة فنية )

الرّواية التّاريخيّة..!! ( مقاربة فنية )

هناك الكثير من الروايات التي اشتغلت على التاريخ، فيها من التزمت بنقله، وكأنها إعادة كتابة تاريخ، وأخرى اعتمدت التاريخ فقط كمادة تخييلية منه تنطلق إلى مجالات أوسع، الاختلافات كثيرة بين الروايات والأعمال السردية التي تتناول التاريخ، ومع انتشار هذه الأنماط من الكتابة، بات ضروريا رسم ملامح نظرية ومنهجية لها (…)!

وبحسب الدّراسين لها [الرّواية التاريخية] فإن “الروائي المؤرخ” ينشغل بالتاريخ كمادة روائية يقصدها الأديب ليحول الحوادث والسير والشخصيات والوقائع إلى مدوّنات نصية سردية يستحضر فيها الواقعي، كما يغلغل فيها التخييلي مستجمعا الوثائق ومستحثا الذاكرة ليلتقي الماضي بالحاضر على أرض واقع نصي، مقدما بذلك مادة أدبية ليس الهدف منها استعادة الماضي، أو استذكاره وإنما الهدف أبعد من ذلك بكثير.

وهو إذ يفعل فإنه يحرص على انتقاء عيّنات روائية اشتغل أصحابها على التاريخ وتسريده جاعلين منه وسيلة لا بغية، لتوسيع إطار التعيين لا يجعله عربيا بحتا، وإنما قد يختار روايات أجنبية معربة تمتاز في الغالب “باهتمامه” أي “المؤرخ الروائي” وبتوظيف التاريخ كناقل لثيمات فكرية ومموضع لبروتوكولات فنية.

وبالرجوع إلى المنجز الروائي العربي الموظف للتاريخ ولقاعدة النقدي الأدبي النظري والتطبيقي المزامن له والمهتم به، فإننا سنلمس بجلاء أن التمثيل للتاريخ يتحدد بخيارين أولهما يتجسد في انتقاء التوظيف التقليدي في تمثيل محكي التاريخ سرديا وهو ما تعكسه الرواية التاريخية، والخيار الآخر يتجسد في الكيفيات التقانية التي تقلب هذا التمثيل وتؤدي وظيفة إشهارية عبر اللعب على المضمر الذي سكت عنه التاريخ الرسمي وحاول تهميشه، وهو ما تعكسه رواية التاريخ.

حيث ترى بعض الكتابات أن تمثيلات النقاد العرب مثلاً شهدت اختلافات كثيرة حول الروايات التي تستثمر الحدث التاريخي كمفاهيم وتقانات وتلك الروايات التي توظف التاريخ كوسيلة لا غاية، فضلا عن التباين في الرؤى إزاء الاصطلاح الأجناسي الذي يضع الحدود النظرية والأطر المنهجية والمواصفات الإجرائية لهذا النمط من التوظيف السردي.

ولا نكاد نجد النقاد العرب اتفقوا اصطلاحيا على تبنّي تسمية مثلى تعطي لهذا الاشتغال السردي توصيفا يحظى بإجماع مبدئي على صلاحيته الأجناسية، ولعل السبب عائد إلى واحد من أمرين؛

الأمر الأول: هو التباين في ترجمة للمصطلح الغربي، فمثلا اعتمد المترجم حيدر الحاج إسماعيل في ترجمة اجتراح ليندا هتشيون لهذا الجنس من السرد بـ “ميتا خرافة التاريخية” تماشيا مع اهتمامها بنظرية التاريخ في مرحلة ما بعد الحداثية.

الأمر الثاني: اختلاف الاجتهاد التطبيقي في معاينة المنظور المفهوماتي وتطبيقه إجرائيا على السرد والتاريخ معا، وسبب التفاوت بين منظّري السردية الحديثة في توصيف شعرية هذا الاتجاه من السرد وبين منظّري سرديات ما بعد الحداثية.

وقد تساءل أهل الاختصاص؛ كيف تصبح رواية التاريخ نصا مشفّرا يستثمر الوقائع والتاريخ والسيرة وظيفيا باتجاه إنتاج التاريخ؟! وما الحدود الأجناسية النوعية بين رواية التاريخ والرواية “السير ذاتية” ورواية “التخييل الذاتي” والرواية “الميتا سردية”؟! وهل يمكن أن تتقاسم هذه الأجناس معمارية محكي التاريخ؟؟!!

ويضيف بعض النقاد أن رواية التاريخ ليست نمطا سرديا يشتغل على الثيمات ويهتم بالمحتوى أكثر من المبنى مثل الروايات الواقعية التي تهتم بثيمات بعينها كالمرأة أو العنف أو الريف أو العمّال مثلاً لا حصراً.. كما أنها ليست الروايات الواقعية التي تتذوتن في إطار جنوسي مثل الرواية النسوية أو إطار إقليمي مثل رواية “الجنوب” أو الرواية “الخليجية”، أو الروايات التي تتقولب في شكل إيديولوجي مثل رواية “الماركسية” أو “القومية” أو تحمل بعدا نفسيا مثل رواية “الغربة” أو رواية “العصاب” أو تتقولب في شكل طبقي أو فئوي مثل الرواية “البرجوازية” أو “العمالية”، أو الروايات المتجذرة بالعرقية الإثنية أو الأقلية الإثنولوجية مثل الرواية “الكردية” أو “السريانية”.. إلخ.

ويؤكد فريق من نقاد الرواية التاريخية أن رواية التاريخ تتجاوز هذه التحديات كلها، وتتعدى تصوراتها بمجموعها، والسبب أنها تتعالى على المعتاد في الكتابة السردية والمطروح من تقاناتها فضلا عن كونها رواية لا تنحاز للشكل كما هو الحال في الرواية “الميتا سردية”، ولا تغلب المحتوى الموضوعي كالرواية الواقعية…

وحسب فريق آخر فإن الرواية التاريخية هي أجناسية سردية بغيتها الأساس الاشتغال الشكلي الموضوعي معا في إطار ما بعد حداثي يتبنى طروحات فلسفية معيّنة، ويتضامن مبدئيا مع توجهات تقويضية عاملة على تدعيمها عمليا في شكل اشتغال “معولم” أو “عولمي” وبقصدية الانفتاح والتداخل.

والهدف المركزي في رأي هؤلاء هو عدم التسليم للتاريخ وفي الوقت نفسه الظفر بالحاضر الآني استشرافا للمستقبل القادم، وبما يضمن للإنسان وجودا حرّا تأصيليا ليس فيه احتواء ولا إقصاء.

وإذا كانت رواية “الميتا سرد” تتبنى الأجناس كما تشتغل على القارئ، فإن رواية التاريخ لا تتعاطى التاريخ إلا كشكل سردي ثقافي يشتغل على المركز والهامش يهمه التجريب الفني، مثلما يعنيه اللعب على الأنساق بمقصدية تقويض الوعي الفكري وخلخلة “الأطر المعرفية للتاريخ”.

ومن منطلق الرؤية التنظيرية والتطبيقية، فقد غلب التطبيق النقدي التنظيري، حيث حلّت أدبيات التعامل العالمي مع مفهوم التاريخ من ناحيتيْ النقد والفلسفة، لتقديم رؤى وتصوّرات حول التعامل السردي مع المادة التاريخية، ما يؤكد وجود اهتمام فكريّ ذي طابع جدلي تمحور حول فلسفة الزمن والوجود والتاريخ، وفي توجيه الرؤى وجهة علمية أو «ميتافيزيقية» أو «إبستمولوجية» أو «ظاهراتية»، ولكن المهم في هذا التوجّه هو خصوصية التاريخ بوصفه مفهوما لا علما حظي باهتمام الفلاسفة قبل أن يحظى باهتمام نقاد الأدب ولاسيما نقاد مرحلة ما بعد الحداثة.

وإذا ما تناولنا التسريد في الرواية “السير ذاتية” التخييلية انطلاقا من تحليل نظري عن علاقة الرواية بالتاريخ من ناحية المنابت والتمثلات، وآخر تطبيقي عن تشظي الذاكرة والإيهام بالواقع في هذه الرواية!!، تأكد لدينا أن التاريخ ميدان رحب للتخييل وأن بإمكان الروائي المؤرخ أو المؤرخ الروائي وهو يضع البطل تحت طائلة التأزم، إزالة الحدود تماما بين القول التاريخي والأقاويل التخييلية منفلتا بذلك من قبضة التاريخ..!

بقلم الأستاذ زين العابدين محمد الشيخ سيدي محمد العباس، باحث في التاريخ الحديث والمعاصر ..

صدقة جارية