أخبار عاجلة
الرئيسية / آخر الأخبار / في حق “جميل”.. ولأجل “تواصل” / محمد فاضل المختار

في حق “جميل”.. ولأجل “تواصل” / محمد فاضل المختار

البداية:
وأنا أجلس مع أحد الإخوة في مكتبه فاجأني بالاستفسار: ما حقيقة هذا الخبر؟ قلت خيرا؟ قال: استقالة الرئيس جميل من ” تواصل” قلت كيف؟!  وعهدي بالأخبار مبشرة عن تسوية متقدمة للمشكل بينه وبين إخوانه في الحزب!
بادرت فورا بالتواصل مع الرئيس جميل فأكد الخبر إجمالا وقال: حين نلتقي نتحدث بالتفاصيل.
فلما استيقنا من صدق الخبر ونسبته حسبلنا وحوقلنا.. أخذ أخي يعزينا فيقول لعلها مناورة جديدة للضغط على الحزب أو لعل الاستقالة تتطلب موافقة إحدى هيئات الحزب، قلت كلا، إنه الفراق، فقد خرج السهم من الرمية!  فالاستقالة من الهيئات هي التي تتطلب الموافقة، أما الاستقالة من العضوية فهي قرار نهائي يعود لصاحبه. 
سُقط في أيدينا وكنا كما وصف المتنبي: 
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر   فزعت فيه بآمالي إلى الكذب 
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا     شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي 
تعثرت بهِ في الأفواه ألسُنها        والبُرد في الطرْق والأقلام في الكتب 

عاطفة.. وعَبرة
علاقتي بالرئيس جميل تفوق علاقة رئيس بمرؤوسه وتتجاوز رابطة الإطار المؤسسي الحزبي فمنذ العام 2011 (دخولي للجنة التنفيذية رئيسا للمنظمة الشبابية) تعززت هذه العلاقة فبعد أن كانت إعجابا وتلمذة من بعيد أصبحت شراكة من أجل تطوير العمل الحزبي والمساهمة في حمل هم الوطن الكبير وقد كانت سنوات حافلة بالعطاء حبلى بالأحداث الوطنية والدولية.. كان جميل فيها نعم القائد والموجه والمربي جمع فيها بين الموقف السياسي الصلب والحجة الواضحة المقنعة وبين الخبرة في إدارة متناقضات المشهد السياسي مدا وجزرا تصعيدا وتهدئة مطالبات بالرحيل، مشاركة في الانتخابات أو مقاطعة لها، وهو ما عسُر واستغلق على قادة المعارضة حينها وعلى بعض إخوانه في الحزب..

فكان تواصل دائما هو المتقدم في الحشد والنضال المبادر الداعي للحوار والتهدئة المسارع للمشاركة الفاعلة أو المقاطعة المؤثرة.
وكان جميل درعا حصينة يومها أطرت للحراك المعارض وحمته من الانزلاق نحو الفوضى وشاهد أنا على بعض أطراف المعارضة كانت تدفع لحراك غير سلمي من أجل الإطاحة بولد عبد العزيز.. فوقف الرئيس جميل في وجهها بقوة وحزم وأكد بأن أمن البلد ووحدته واستقراره خط أحمر وأن “المحافظة على البلد أولى من إصلاحه”.
ثم تعززت علاقتي بالرئيس أكثر فأكثر حتى بعد مغادرته لرئاسة الحزب فلا أفتأ أزوره في بيته ومكتبته فعرفت فيه الصدق النادر والأمانة والتواضع والوضوح والانسجام فيما يعتقد والوقوف عند عهده وكلمته.. 
وحين سألته اليوم في لقائي معه عن حقيقة ما جرى قال فيما قال: ” 
والله لا أعلم أحدا ـ إذا استثنيت شخصين ـ قد يكون هذا القرار آلم له وأشد ثقلا على نفسه مني.. ولقد استنفدت جهدي.. ثم… ولا تسأل عن حالنا! 

المصاب.. والعِبرة
لن تمر استقالة جميل دون أن تحدث ارتدادات عميقة داخل الجسم التواصلي وداخل الساحة الوطنية ولكن الأهم هو ألا تمر حادثة كهذه دون توقف ومساءلة فهي خسارة بحق، بل خسارة من الحجم الكبير، معذورون نحن فيها أو مخطئون، أخطأ جميل أم أصاب، ذلك موضعه المراجعة الجادة والتقييم الشامل..
صحيح.. ليس الرئيس جميل من رجال الأعمال الممولين للحزب ولا من بين القيادات التي تمتلك حواضن اجتماعية كبيرة، ولكن لجميل ما هو أعظم من ذلك وأهم فجميل يمثل “رأس مال معنوي” كبير للحزب وللتيار الإسلامي الوسطي، وخروجه وهو يحمل مظلمة التمثيل الفئوي والاستيعاب القيادي لا يبشر بخير! 
والأحزاب ذات المرجعيات الإديولوجية تعيش بالفكر والرمزية أكثر مما تعيش بالمال والجمهور.
من المهم جدا الاعتبار بما حصل والابتعاد عن الخطاب “التسكيني” بأن “تواصل” فكرة ومشروع والفكرة لا تتأثر بذهاب الأشخاص ومجيئهم، وهذا خطأ كبير وإحالة كسولة على أقدار ليس لنا أمرها، أو مجازفة في استحضار العصمة لاجتهادات تبقى بشرية حتى وإن أُلبست لبوس المؤسسية أو اعتقد أصحابها سلامة النيات والمقاصد والله وحده المطلع على السرائر والنيات.. وهو أيضا قراءة قاصرة للواقع السياسي والتنظيمي للتجارب السياسية والإسلامية الشبيهة نموا وانتشارا أو تمزقا وانحسارا لا قدر الله. 
 هذا في حق المؤسسات ـ أيا كانت ـ وهو في حق الأفراد ـ قادة ومقودين ـ آكد فالمهم عندي والواجب في رأيي هو الاعتبار والادكار واستخلاص الدروس.

الأفكار والأشخاص.. 
 فالأفكار والدعوات تتأثر بالأشخاص، ترتفع وتقوى وتزدهر بهم وقد تضعف وتتراجع وتتلاشى بسببهم.. وفي كلا الحالين تتأثر بوجودهم وقد تتأثر بفقدانهم.. وكما يقول سيد قطب رحمه الله بأن “أي فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان حي وأي فكرة لم يكتب لها هذا الغذاء المقدس فلن يكتب لها البقاء”
ولهذا كانت الحكمة من بعث الرسل والأنبياء ووجود المصلحين والشهداء ليتمثلوا قدوات للناس في حياتهم وحين مماتهم. فكان النبي صلى الله عليه وسلم “قرآنا يمشي” و “كان خلقه القرآن” وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم ” اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك” ويقول ابن مسعود “مازلنا أعزة منذ أسلم عمر”

“تواصل” بعد جميل:
لا شك أن حزبا كتواصل يمتلك ـ ولله الحمد ـ الكثير من الأطر والكفاءات لن ينهار أو يتلاشى كما سيتمنى البعض، كما أن شعبية “تواصل” لن تتأثر بصفة مباشرة كما لن يتأثر سير الوظائف الحزبية أكثر مما عليه الحال، فقد فرط “تواصل” عمليا في جهود رئيسه ومؤسسه منذ فترة! 
لكن ضررا أكبر سيلحق بالحزب وربما لن يكون سريعا أو متبادرا، ألا وهو الضرر المعنوي الذي سيمس صورة وألق ونصاعة وجاذبية الفكرة التواصلية من الخارج.. وتراجع الحماس والاندفاع والتضحية الذاتية في الداخل..
فالفاعلية السياسية تتطلب ألقا يشع ويستقطب، وقناعة وثقة واطمئنانا على المسار والإجراءات تحفز وتدفع وتحرك.. وبدون ذلك سيتتابع رحيل الأخيار المؤثرين أو يقنعون بالسلبية ويأنفون أو يتوارون في هدوء، لتبقى المؤسسات موائد لأصحاب المطامح والمطامع!
وهذا يتطلب وعيا يستشرف المستقبل وجهدا كبيرا يستدرك وتقييما صريحا يصحح الاختلالات الموجودة، تحريا واختيارا للأنسب والأكفأ والتزاما بالمؤسسية وتقوية للهيئات الحزبية.
والتعالي والمكابرة هنا مضرين وقاتلين وكما أن الأفراد يخطئون فإن المؤسسات هي الأخرى تخطئ وتقصر، والخطأ ليس عيبا إنما الخطيئة التمادي في الخطأ..
سيحاول الطيبون التهوين والتخفيف وهو متفهم، وسينبري الشامتون في “تواصل” وخارجه يلمزون ويشككون ويتهمون، وستُشع قلوب ملأها الحقد والأنانية والمكر بطرا وفرحا واستبشارا.. 
ولكن سنبقى نحن لحزننا على قائد قوي أمين غادر سربه إلى غير رجعة..  وعلى “تواصل” ذلك العقد الفريد الجميل الباكي الذي وإن تزينت حبات نظمه وتلألأت تبقى يتيمة كسيرة لأنها فقدت واسطة عقدها:
 كم حسرات لي وكم وجدِ     ليست على غَور ولا نجد
ألم يكن غُرةَ إخواننا          ألم يكن واسطة العقد 
أليس كنا سُوَرًا للعُلى        وكان فينا سُورة الحمد
ناهيك من حلم ومن سؤدد     فيه ومن علم ومن رفد

جميل بعد “تواصل”:
أما جميل خارج “تواصل” فهناك ثلاثة سيناريوهات متوقعة:
–    أولا خيار الاعتزال: أي أن يعتزل جميل العمل السياسي والشأن العام ويعتكف على مشاريعه الفكرية التي تأخرت وتضررت كثيرا بصخب السياسة وتعبها، أو يكتفي بالإسهام الفكري والثقافي، أو يسهم برأيه كشخصية مستقلة دون إطار أو عنوان.. ولا شك أنه سيفيد في هذا الجانب وسيسهم إسهاما مقدرا تحتاجه الساحة الثقافية الوطنية والإسلامية عموما.
ولكن تبقى طبيعة الرجل العملية والإيجابية التي لا تحتمل الانزواء في ركن الثقافة وزوايا الفكر البعيدة الباردة، وشخصيته القيادية المؤثرة التي لن تتحمل الجلوس في دكة الاحتياط والتفرج على المشهد السياسي والقيادي في البلد وهو يمور ذات اليمين وذات الشمال دون إسهام مقدر.
–    ثانيا: الالتحاق بالنظام: وهذا خيار متوقع خاصة بعد العلاقة الطيبة بينه والرئيس غزواني وتقارب الرؤى في عدد من النقاط الجوهرية أبرزها ما يتعلق بمشكل الوحدة الوطنية.. ولكن يضعف من هذا التوجه الأداء المتواضع لنظام الرئيس غزواني كما أن صفوف الموالاة لن تكون مرحبة بشخصية مؤثرة وقوية ومحبوبة مثل الرئيس جميل، ولكن الأهم من ذلك هو طبيعة الأدوار التي يمكن أن يتفق عليها الرئيسان وحجم التفويض والصلاحيات المعطاة.
–    ثالثا: الإطار السياسي المستقل: فلجميل من العلاقات والتأثير داخل الساحة الإسلامية وداخل النخبة السياسية في البلد ما يمكنه من تأسيس إطار سياسي مستقل (قد لا ينحو نحو الشعبوية ولكنه سيكون مؤثرا بالموقف والرؤية والحضور) ولا شك أن مثل هذا الإطار لن يولد جنينا خاصة في ظل ما تعرفه الساحة الإسلامية من عزوف عن المشاركة السياسة وما تعرفه الساحة الوطنية من فراغ بعد تفكك كيانات سياسية عريقة وما يتمتع به جميل من مرونة وقدرة على جمع المتناقضات الفكرية والاجتماعية، وقدرة على الاقناع والتجميع وفاعلية في الأداء والمتابعة وغيرها من الصفات التي نادرا ما تجتمع في شخص..
ويبقى التحدي كبيرا فإدارة الأحزاب القائمة ليست بالمهمة السهلة الهينة، أحرى تأسيسها من البدء تجميعا وتوفيقا وتحصيلا للموارد والإمكانات.. ولكن هل عند جميل الدافع والرغبة ورصيد الطاقة والإرادة اللازمين لذلك؟ الأيام وحدها وتطورات الأحداث ستحدد ذلك.

الوفاء جميل ب “جميل” وب “تواصل”:
كما كان جميل كبيرا في “تواصل” عليه أن يبقى كبيرا في خروجه من تواصل وقد جاء بيان الاستقالة موفقا بذكر المبررات مجردةً دون تحامل، ومُجملة دون ذكر للحيثيات والتفاصيل.. مع اعتراف بفضل الأخوة وأسف على قرار الاستقالة، وقد اختار الرئيس أن يكون قراره شخصيا فلم يُعلم حتى أقرب المقربين منه بقرار استقالته إلى أن سلمها للحزب..
ولا شك أيضا بأن الأوفياء في الساحة التواصلية والإسلامية عموما كثر وسيحفظون لجميل مكانته ويرعون له بذله وسابقته، والحر من يحفظ وداد لحظة فكيف بمعلم جيل وحامل لواء دعوة؟!

الخلاصة ودون الخوض في مبررات هذا الطرف أو ذاك أنه: (أخطأ أهل “تواصل” بتفريطهم بشخص وقائد بحجم ومكانة ورمزية الرئيس جميل حين اضطروه لأضيق السبل وأصعب القرارات). 
وأخطأ جميل في عدم صبره على إخوانه واستسهاله الخروج من مشروع كان أبرز مؤسسيه وأفنى في خدمته سني عمره وزهرة شبابه.
أو بعبارة أخرى أبطأ أهل “تواصل” وتعجل “جميل” ودائما يقولون بأن: مصائب قوم عند قوم فوائد و “الصحة بعد!”.
 FacebookTwitterWhatsAppShare

صدقة جارية