أخبار عاجلة
الرئيسية / آخر الأخبار / القاضي محمد عبدالرحمن بن السالك (النّح) العلوي الشنقيطي(217)

القاضي محمد عبدالرحمن بن السالك (النّح) العلوي الشنقيطي(217)

القاضي محمد عبدالرحمن بن السالك (النّح)

هو محمد عبد الرحمن الملقب(النّحْ) بن السالك بن باب بن أحمد بيب بن عثمان بن سيدي محمد بن عبد الرّحمن بن الطّالب محّم (الفقيه محمد) بن حبيب بن محمد بن أبيج بن هندن الله بن أبيج بن يحيى العلويّ الجدّ الجامع لأكثر إدوعلي.
وأما أمه فهي عائشة بنت سيدي بن أحمد فال بن سيدي العلوية.

كان والده القاضي السالك بن باب بن أحمد بيب، قاضي الزوايا بلا مناع يرجع إليه في المشكلات، عرف بالعدل والصرامة في الحق والحزم، فقد جاءه الفارس المعروف لحزام ولد المعيوف طرفا في نزاع مع رجل فقال له الناس: إن لحزام إذا لم تداره وتحكم له سيقتلك بمدفعه فقال السالك قولته المشهورة :
احكمو عني مدفعو إلين نحكم عاكَب ذاك ما غديلي
وحكم السالك لخصم لحزام وانصاع لحزام للحكم .

وفي سنة 1301 هـ – 1883م رزق القاضي السالك بن باب، بابنه محمد عبد الرحمن الملقب(النَّح).
وكان الحي من العلويون ينتقلون بين “لعگل” وآتكور، وحافة بحيرة اركيز، يقول العلامة محمد فال بن باب(اباه):
ألا ليت شعري هل لي الدهر عودة :: لحي لدى البطحاء أو ربوة الصدر
فيوم بجنب الواد بعض وبعضهم:: بجنبة إحدى السدرأو جنب ذي السدر
أقاموا بها حتى إذا انسلخ الشتا :: توقوا سموم الغيظ في حافة النهر
وفي هذا المجال تربى وترعرع (النح) بين مراتع “العقل” وعيون البحر، في جو مفعم بالعلم الغزير والدين القويم ومكارم الأخلاق والمثل الفاضلة، انطبع فيه منذ الصغر فلم يجد صعوبة في انتهاج النهج القويم في عباداته ومعاملاته، فكان شديد التأثر ببيئته هذه، محبا لمواطنه تلك، كثير الذكر لمعاهد صباه في غرره الشعرية، حتى إنه كان يقول: إنه أدرك أقواما من قومه وذويه لا يفضل عليهم رجال (الحِلية)، يعني “كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم”.

ظهرت عليه بوادر النبوغ في سن مبكرة، ولم يخب ظن الشيوخ فيه حيث آنسوا منه منذ أن بدأ يحضر مجالس الدرس تميزا وبراعة في سرعة الحفظ والضبط والفهم منقطعة النظير، مما جعلهم يولونه عناية خاصة، بل لقد كانوا يرجعون إليه في عويصات المسائل فيها بعد .

وقد بدأت رحلة طلب العلم بقراءة القرآن على عادة أقرانه من أهل البلد، فقرأ على الشيخ المقرئ المختار بن الرباني، ثم أخذ في طلب العلوم الشرعية واللغوية، فأخذ عن جماعة من مشايخ ومقرئي بلده وإقليمه،

كما كانت طبيعة البداوة التي نشأ فيها تقتضي منه الترحال شرقا إلى مواطن قبيلة تندغه (حلة الأربعين جوادا) التي تربطها بمجتمع المؤلف وشائج قربى وصلات ضاربة الجذور في أعماق التاريخ.

حفظ النح القرآن الكريم ودرس علوم الشريعة واللغة على والده القاضي السالك، وعلى واسطة عقد العلماء المجلى العلامة محمد الأمين ولد بدي (حمّيينْ)، الذي قرأ عليه جزءًا من ألفية ابن مالك، كما درس على علماء آخرين، فقرأ على العلامة أبي بكر بن فتى الشقروي، ثم التحق بأحمد بن معي الألفغي فقرأ عليه احمرار ابن بونه وطرته على الألفية، و درس الفقه على العلامة سيدي بن محمد الفاضلي، وعلى العلامة المحقق البراء بن بَگِي.

وقد تلقى أشياء من اللغة وعلومها على بعض مشايخ بلده مثل العلامة اللغوي الشهير محمد و بن فتى العلوي، والعلامة ابد بن سيدي أحمد بن محمود العلوي وغيرهما .

وكاد العلامة القاضي محمد عبد الرحمن أن يستقل بذهنه الثاقب ونظرة البعيد عن مذاكرة الشيوخ، إذ كان أكثر أخذه من الكتب وهي طريقة لم يرثها كلالة حيث إن جده باب ولد أحمد بيبَ كان يذكر عنه ذلك وله فيه خبر مشهور مع العلامة حرمه ولد عبد الجليل مذكور في كتاب الوسيط.

استقر العلامة النح، ببلدته (النباغية) وألقى عصا تسیاره و اطمأنت به الدار فلازم عمه وشيخه ومربيه الإمام الحجة محمد فال بن ،باب فدرس عليه الفقه دراسة معمقة، وقرأ عليه أصول الفقه، وتدرب على يده في تحرير المسائل وصياعة الفتاوي، وقد أشار عليه بالاشتغال بتحرير المسائل فانكب على كتب الفقه مطالعة وتقييدا وتحصيلا وتحريرا، فكان بذلك أحد حفاظ المذهب المتقنين المطلعين على مسائله و شوارده المعتنين بالتنقيب عن كتبه ورجاله حتى بلغ في ذلك مبلغا قل أن يتأتى لغيره.

وكان يسافر الأسفار البعيدة ويتجشم المشاق في طلب الكتب بل كان همه إذا هو سافر العثور على كتاب جديد لم يكن عثر عليه من قبل، وقد سافر إلى مدينة شنقيط ليطلع على شرح ابن رحال على الشيخ خليل الموجود في مكتبة أهل حبت.

وقد كان له اطلاع كبير ومعرفة واسعة بما في خزانة كل عالم موريتاني قديم أوحديث من الكتب ويعرف النسخ الموجودة من الكتاب في هذه البلاد. وخير دليل على ذلك شرحه لنظم الكتب المعتمدة الذي سماه (عون المحتسب)

فتجده حين يذكر الكتاب يذكر هل هو مطبوع أو مخطوط، وهل هو موجود أصلا بهذه البلاد أم هو مفقود، وإذا كان موجودا ذكر المكان الذي يوجد فيه والشخص الذي يمتلكه إلى غير ذلك من التحقيقات البديعة، ذلك أنه كان يكاتب علماء هذه البلاد الذين عاصروه يسألهم عما يوجد لديهم من غرائب كتب المذهب وكتب رجاله ويستعير منهم كتبهم حتى يطالعها وينقل منها ما أراد قبل أن يردها إليهم.

كما كان يسافر أحيانا إلى السنغال ويتجول في قراها يبحث عن الكتب يستوهبها فإن سمحوا بها وإلا طلب إعارتها منهم فإذا تتعذر ذلك عكف على مطالعتها حتى ينقل حاجته منها.

وكان من عادته أن يطالع الكتاب من جلدته إلى جلدته، ولا يكتفي منه بأقل من ذلك، ويعلم على كل فائدة رآها فيه ويكتب رقمها مع الإشارة إليها.

وهكذا فقد عاش محمد عبد الرحمن (النح) بن السالك حياة علمية مليئة بالجد والنشاط في التحصيل فقد وقف حياته كلها على طلب العلم وطلب الاستزادة منه وتفرغ له التفرغ التام بحيث لم يكن في حياته فضل عنه.

ولما أصيب بالصمم في أواسط عمره كان يكتب له في التراب وعلى وجه البساط الذي يكون جالسا عليه فيقرأه فورا قبل أن ينتهي الكاتب من كتابته.

وقد رآه مرة العلامة القاضي سيدي محمد بن داداه ومعه رفيق له وهو يكتب له في الهواء بأصبعه وهو يقرأ فتعجب من ذلك وقال: “من كان يشك في الفتح ولا يصدقه فلينظر إلى هذا”
.
ولما ضعف بصره في آخر زمنه عن المطالعة كان يتأسف أسفا بالغا ويتحسر على فوات حظه من المطالعة وهي أكبر متعة في حياته، لكنه كان يأمر بإخراج الكتب من مخازنها ويجعلها بجواره استئناسا بها وحبا لها، وربما يدخل عليه الداخل فيجده وبیده کتاب قد فتحه وهو يحاول بكل وسيلة أمكنته أن يقرأ منه سطرا أو سطرين، فإذا أحس بالداخل انشرح صدره وتهلل وجهه وطلب منه أن يكتب له بعض ما فيه في التراب وهي طريقة كان يحاول بها التعويض عن عدم قدرته على المطالعة.

حتى إنك لتجده وهو في غاية المرض وشدته وهو يجهاد نفسه في المطالعة لكلفه بالعلم وشغفه به.

وقد أجريت له عدة عمليات استشفائية لضعف البصر بناء على رغبته لشدة نزوع نفسه إلى مطالعة الكتب ورغبته الجامحة فيها.

و من عجيب استحضاره وضبطه أنه إذا طلب من أحد أن يأخذ له كلاما من کتاب يقول له التمسه عند يدك اليمنى أو اليسرى في أول الصفحة أو وسطها أو آخرها وغالبا ما يجده طبق ما وصف ويكون قد طال عهده به جدا.

وإذا ذكر فائدة أو كلاما يستحضره من كل مصدر، فيقول هذا الكلام ذكر في الموضوع الفلاني من الكتاب الفلاني، وذكر في موضع كذا من كتاب كذا، ويمضي في تعداد مصادره فربها أنهاها إلى عشر أو أكثر، بحسب الموضوع وتناوله في الكتب.
وكان كثير الشكوى من أهل زمنه لما يرى من إعراض الناس عن العلم ويقول إن تركه كفر أو قريب من الكفر.

وبالجملة فقد كانت حياته رحمه الله كلها جدا وتحصيلا لا راحة له إلا في التعلم والاشتغال به حتى أنه في وقت هدوء الناس ونومهم بالليل يبيت يسرح بفكره في مسائل الفقه وحل عويصاته وتصيد غرائبه فهو دائما يقول فكرت البارحة في كذا فوجدته كذا وعرفت أن المسألة الفلانية مدركها كذا.

وكان يقول إنه قد ترفع إلى النازلة العويص حلها فتمنعنه النوم والأكل والشرب ولا يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى يلهمه الله تعالى حلها .

وكانت مجالسه كلها إمتاعا ومؤانسة يطرزها بأحاديثه الشهية العذبة تارة في الشعر وأدبياته وآونة في تاريخ البلاد وأخبار أعلامها ووقائع أمرائها، وأحيانا يسرح في تاريخ أعلام المذهب وأخرى يرتع في رياض الكتب يستخرج لآلئها المصونة، ومرة تكون في تجاربه العلمية القيمة ومشاكل الفقه التي تستجد كل وقت وترفع إليه، فلا يكاد يخلو وقت من أوقاته من مسألة تحرر أو سؤال يتطلب جوابا، فقد كان دائما يردد أنه لا فرق عنده بين بهيمة ظلت ترتع وراحت تجتر وإنسان يظل يومه لا ينظر كتابا ولا يسأل فيستفيد حكما لم يكن يعرفه.

لم ينتصب العلامة محمد عبد الرحمن ولد السالك للتدريس بصفة رسمية منظمة، بل كان يكرس كل أوقاته في تحرير المسائل وإبرام الأحكام أو نقضها، بل يمكن القول إن ظروفه الصحية لم تكن تسمح له بذلك.
ومع ذلك فقد جالسه رجال وانتفعوا بعلمه ما فتئوا يتحدثون بذلك، ويصفون مجريات مجالسه التي لا تمل.

وقد اعترف للقاضي محمد عبد الرحمن علماء عصره بالحفظ والإمامة في الفقه، قال عنه العلامة الأورع محمد سالم بن ألما اليدالي، فيروي الإمام الحجة محمد الحسن ولد أحمدو الخديم عن شيخه ابن ألما قوله: إن العلامة محمد عبد الرحمن بن السالك(النح): هو أفقه من دخل هذه البلاد من تقدم منهم ومن تأخر.
فقيل له بم عرفت أنه أفقه من المتقدمين وأنت لم تدركهم؟
فقال: رأيت آثارهم ومؤلفاتهم وقارنتها بمؤلفاته فرأيت البون بينهم شاسعا.

وفي تقريظ العلامة الأصولي الشيخ المختار بن ابلول الحاجي رحمه الله، لتأليف العلامة (النح) المسمى (تسديد الرواد إلى مطلب نازلة ابن أجواد)، كتب ولد ابلول: “محمد عبد الرحمن بن السالك إمام الوقت والمرجع في النوازل” ثم أنشد فيه أبيات حسان بن ثابت التي مدح بها حبر الأمة عبد الله بن عباس، وهي :
إذا قال لم يترك مقالا لقائل :: بمنتظمات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع :: لذي إربة في القول جدا ولا هزلا

وقال عنه العلامة الكبير حامدٌ بن محنض بابه الديماني رحمه الله: “إن النازلة إذا أشكلت والتبس أمرها لا يخرجها من الظلمة إلى النور إلا قلم محمد عبد الرحمن بن السالك”.

وكان قاضي قضاة هذه البلاد محمذن بن محمد فال (اميي) يقول: “أنا إذا رأيت توقيع محمد عبد الرحمن بن السالك على شيء حكمت به ولا أحتاج إلى نظره لأنه لا يكتب إلا الحق ولا يصدر عن قلمه إلا الصواب”

و قال عنه المؤلف محمد خير رمضان يوسف في تتمة الأعلام للزكلي:
النح محمد عبد الرحمن بن السالك العلوي..
علامة، قاض، شاعر. اسمه الكامل: النح محمد عبد الرحمن بن السالك بن بابا بن أحمد بيبه العلوي.
له عدة مؤلفات منها عون المحتسب.

وقال عنه المؤلف يوسف بن عبد الرحمن المرعشلي في نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر:
اسمه الكامل: النح محمد عبد الرحمن بن السالك بن بابا بن أحمد بيبه العلوي، من بيت علم وقضاء وأدب وتصوف في موريتانيا، له عدة مؤلفات منها عون المحتسب فيما يعتمد عليه من كتب المذهب.

وحين عقدت الحكومة أول مؤتمر للقضاة في المنتبذ القصي في الثاني من نوفمبر سنة 1961، قام وزير العدل الحضرامي ولد خطري بدعوة جميع علماء وقضاة البلد فكان من جملة من حضر العلامة القاضي محمذن ولد محمد فال (اميي) والعلامة القاضي الشيخ أحمد أبو المعالي ولد الشيخ الحضرامي والعلامة القاضي الشيخ المحفوظ ولد بيّه والعلامة المؤرخ المختار ولد حامد و العلامة القاضي محمد عبد الرحمن (النح) وغيرهم من أعلام البلد ..
حدثني الإداري المخضرم الثقة أحمد ولد ابّا ولد امين رحمه الله، قال: في هذا الاجتماع كان القاضي (النح) ظاهرة بهرت جميع العلماء وما فتئ العلامة القاضي الشيخ المحفوظ ولد بيّه يكرر طوال أيام المؤتمر: ” هذا الأطرش عجيب.
ثم صار الشيخ المحفوظ بعد ذلك يواصله ويلقي عليه ما يشكل من مسائل العلم ويبعث له التحف والهدايا.

وقد روى قاضي الحوض الغربي العلامة بٍيّ ولد سليمان، الذي حضر مؤتمر القضاة سنة 1961، أنه انعقد شبه اجماع بينهم على أن محمد عبد الرحمن بن السالك هو أفقه من دخل البلاد.

وذات درس في مسجد العلامة إنّ ولد الصفي الفودي التندغي رحمه الله في دار النعيم عزا العلامة إنّ قولا للعلامة النح فسأله أحد طلابه : النح منهو؟
فتغير وجهه وغضب وكان قليل الغضب وعنف الطالب تعنيفا شديدا لجهله علما من أعلام البلد والمذهب بحجم القاضي (النح) .

ولما زار العلامة الحجة الحافظ محدث الديار المصرية محمد الحافظ بن عبد اللطيف، موريتانيا وذلك حوالي سنة 1385 والتقى بالعلامة النح، وباحثه أعجب به جدا وقال عند وداعه: لولا الحقوق لما فارقت هذا الأصم.

وكان الإمام الأكبر بداه ولد البصيري برد الله مضجعه، يعزو له ويقول محمد عبد الرحمن ولد السالك(النّحْ) علمًا.

ويقول العلامة الشيخ اباه بن عبد الله، حفظه الله، معلقا على كتاب “عون المحتسب فيما يعتمد عليه من كتب المذهب” وهو شرح القاضي محمد عبد الرحمن (النح) لمنظومة القاضي محمد بن محمذن فال التندغي الأربعيني، في ذكر الكتب المعتمدة في المذهب المالكي، يقول العلامة الشيخ اباه:
“ليس العجب من إملاء هذه البحوث التاريخية لعلماء مذهب إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله تعالى من عالم متبحر في فروع هذا المذهب ورجاله بلا مدافع مثل محمد عبد الرحمن رحمه الله تعالى، إنما العجب من الظروف التي أملى فيها ، وذلك أن المؤلف أصيب بالصمم منذ خمسين سنة قبل وفاته ، لكنه كان متمتعا ببصره ؛ فكان يطالع ويكتب في غالب أوقاته وكان الناس يكتبون له في الأوراق والهواء وفي يده ما أرادوا أن يسألوه عنه أو يخبروه به فيفهمه بسرعة فائقة، وربما كتبوا له في الظلام في يده بأصابعهم فيفهم ويجيب ، ويتعجب الناس من ذلك، لكنه ضعف بصره في سنواته الأخيرة فصار لا يطالع ولا يكتب، وإنما يكتب له في الرمل بأصبع غليظة.
ولما أتاه هذا النظم من العالم المتفنن الأجل القاضي محمد بن محمذ فال رحمه الله، صار يُكتب له في الرمل البيت منه، فإذا فهم مقتضاه أملى عليه ما اختزنته ذاكرته، وربما أحال كُتابه على مواضع من كتب يذكر لهم مداركها بالتدقيق، حتى كمل الإملاء من غير أن يستطيع أن يقرأه لضعف بصره أو يُقرأ عليه لصممه القديم.

وقد يظهر لمُطالعه أثر اختزان الذاكرة مع تقدم السن إذ كانت هذه الإملاءات في العام الذي قبل وفاته وهو إذ ذاك ابن سبع وتسعين سنة -ورب ضارة نافعة- فصار أشبه بخزانة إفادة ومجلس محاضرة ومذاكرة، تجد فيه فوائد وغرائب لا تكاد تجدها في غيره”.

هذا وإن ثناء العلماء على محمد عبد الرحمن بن السالك وإشادتهم بمكانته وتقديرهم لمواهبه كثير لا يستطاع له حصر ولا تنال به إحاطة، وحسبك أنه لم يبق أحد من الشيوخ الذين عاصروه إلا کاتبه وراسله واستفتاه فيها أشكل عليه حله من النوازل وعويصات المسائل فيجد لديه الحل الشافي والجواب الكافي.

لقد كان القاضي محمد عبد الرحمن يحفظ روايات المذهب المالكي من ظهر قلب ويستحضر فروعه كأنها بين عينيه ويمليها عند الحاجة سردا من حفظة دون تغيير ولا تبديل، فتراه في كتبه وإملاءاته وهوامشه التي يضع على حواشي كتبه يغلط أكابر أئمة المذهب وحملة ألويته.

وقد بلغ مبلغا بعيد الشأو في الضبط والتحرير والإتقان حين يحدث عن العلماء ويحدد رتبهم، ويحفظ ما قيل في كل عالم ويذاكر به أهل مجلسه

ومن أمثلة ذلك أنه كان يقول إن ابن رشد الدراية أغلب عليه من الرواية.
وإن ابن العربي لم يتغلغل في الفقه تغلغله في الحديث.
وإن ابن القاسم بضاعته في الحديث مزجاة.
وعن ابن أبي جمرة وابن الحاج صاحب المدخل أن ورعهما أكثر من علمهما.

ويقول إن ابن الحاجب يتبع ابن رشد، وأنه خفي عليه اصطلاحه في سبعة مواضع من كتابه، واصطلاحه أن يعبر عن المازري بأبي عبد الله وعن ابن رشد بالشيخ أبي الوليد وابن رشد اسمه محمد وغلبت عليه الكنية، ويعبر عن الباجي بالقاضي، والباجي اسمه سليمان، فخفي هذا على ابن الحاجب فجعل ينسب في مختصره ما للباجي لابن رشد وما لابن رشد للباجي لظنه أن ابن رشد أولى بالتلقيب بالقاضي، وأن الباجي أولى أن يلقب بالشيخ.
فما ظنك بمن يتنبه لهذه الدقائق التي خفيت على أكابر نقلة المذهب وحملة ألويته وضلت عنها أفهامهم.
طالع (النح) موسوعة الونشريسي (المعيار) حرفا حرفا ونبه على ما وقع فيها من أخطاء.
ولشدة تمكنه من معرفة الكتب، فقد تمكن من تعيين بعض الكتب كان المختصون يحارون في معرفتها كما حصل له مع كتابيْ مالك زمانه الإمام العلامة الفقيه أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني: “مختصر المدونة و”النوادر والزيادات”، حيث كان الناس يظنون المختصر هو عين النوادر، يقول النح:
“والمختصر هنا منه جزء أتى به اباه من عند الشيخ سيديا، وكان غير معروف، وكانوا يظنونه النوادر، وأنا هو الذي عرفته، ولم أره قط قبل ذلك، غير أني أعرف النوادر”
كما أنه كان يعرف الكتب الموجودة بالمنتبذ القصي، وبعدد ما تحويه مكتبته العامرة، ومظان غير الموجودة في مكتبته؛ حيث أشار في كتابه “عون المحتسب فيما يُعتمَد من كُتُب المذهَب” إلى عدة مكتبات كمكتبة أهل الشيخ سيديا ومكتبة أهل العاقل ومكتبة بعض أبناء أحمد بن يوسف ومكتبة سكيرج وغيرهم، وكان يحدث بإحصاءات دقيقة عن أجزاء الكتب وتفرقها في البلاد، وعن ما لم يدخل البلاد من الكتب، كما تحدث عن خطاطي النسخ التي وقف عليها ووصف حالها من القدم والضياع.

يحدث تلامذة ومعاصري الشيخ محمد عبد الرحمن أن من يستمع إليه يحدث باستفاضة وإسهاب عن رجال المذهب وأعلامه يتوهم أنه خالطهم وعايشهم في عصورهم، فقد امتزج حب المذهب وأعلامه بدمه ولحمه وجرى في عروقه، وقد علم من تفاصيل أخبارهم وسيرهم ودقيق أحوالهم وجليلها وطرائف حكاياتهم ما لا تجده في كتاب.

تولى العلامة(النح) القضاء بعد وفاة والده القاضي السالك بن باب، ولشدة ورعه واحتياطه في أمر دينه أخبر عن نفسه أنه مع طول المدة التي مكث في القضاء لم يحكم بين اثنين قط في نازلة إلا مرة واحدة، وإنما كان يحرر حكم المسألة ويرسل به الخصوم غالبا إلى القاضي العدل محمذن بن محمد فال (امييْ)، ليبت الحكم بينهما وهذا من عظيم ورعه و مخافته من الله تعالى. كما كان يقول دائها “أنا لا أكتب أبدا حكمت”.

وقد كان لا ينظر من مؤلفات وفتاوي معاصريه إلا من عرف بالتحرير واشتهر به وينشد في ذلك قول العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي رحمه الله:
ويكره التأليف من مقصر:: كذلك إبراز سوى المحرّر.

كما كان يقول أنا لا يغضبني شيء مثل (الفتوى غير المحررة) و(الشعر غير الجيد)، وربما استشهد بقول شيخه وعمه العلامة محمد فال بن باب (اباه)رحمه الله في الضاد الرخوة:
وما العلم إلا قول شيخ محرر :: يريه بنص واضح القصد ظاهر

من أبرز مؤلفاته:

  • عون المحتسب فيما يُعتمَد من كُتُب المذهَب
  • جلاء الشك والريب فيما يثبت به النكاح ويلحق النسب
  • تسديد الرواد إلى مطلب نازلة ابن أجواد
  • كشف القناع عن مسائل الرضاع
  • نشر العرف في إثبات الشروط بالعرف
  • رفع الشوائب عن بيع الغائب
  • توجيه النظر إلى قسمة ما لا ينقسم إلا بضرر
  • وسائل المقاصد على نفائس المراصد
  • الآذان فيما يسن للجمعة من أذان
  • ترصيع اللآل في مناقب شيخنا محمد فال بن باب.
  • أدلة التعريف بما نشأ في الدين من تصحيف وتحريف: (يجيب فيه عن عشرين سؤالا بعث إليه بها العلامة الشيخ أحمدو بن أبي بكر الشقروي رحمه الله)
  • نشر العرف بإثبات الشروط بالعرف
  • توجيه النظر إلى جواز قسم ما لا ينقسم إلا بضرر
    (رفع الشوائب عن بيع الغائب) موضوع رسالة لنيل المتريز للأستاذ أحمد بدي
    بن اباه
  • تيسير الوفا بحقوق آل البيت الشرفا.
  • وسائل المقاصد على نفائس المراصد
  • منع السلوك إلى طريق السلف من البنوك.
  • ما يكون به الأب عاضلا.
  • ما يلزم الحالف بالحرام إذا حنث .
    القول الوجيز في تأصيل ملك العلويين لحباي والركيز(موضوع رسالة متريز للأستاذ الفضل بن الداه).

أما فتاويه فكثيرة جدا ومنتشرة بحيث يكون من العسير الإحاطة بها، ذلك أن هذا الشيخ مكث نحو سبعين سنة وهو يؤلف ويفتي، فقد سارت بفتاويه الركبان وانتشرت في الآفاق حيث كانت ترد عليه الأسئلة من مختلف الجهات ومن أقاصي البلاد، فقد عرفه الناس حال حياته بأنه المرجع الثبت والحافظ المتقن والتحرير الفذ الذي ترحل إليه العلماء وقادة الفقه للاغتراف من فيض علمه وحل ما يعترضهم من مشاكل وشبهات.

وفتاويه على كثرتها وتشعبها بالغة النهاية في التحرير والإتقان والاستيعاب فكل فتوى صدرت من عنده يمكن أن تكون تأليفا مستقلا بنفسه، ذلك أنه لا يحب الاختصار ويعيبه ويقول أنا لا أحب القليل، ويعزو للحسن ابن رحال أن التحرير لا يكون إلا بكثرة النقل، ويحكي أنه سمع من شيخه العلامة محمد فال بن باب کلمتین جعلهما معتمده في الإفتاء والتأليف:
الأولى أنه قال له: (النّسعَه تنگصْ إلى لُوتِدْ)
والثانية: القول لا بد أن يعرف أول من قاله.
والقولة الثانية بمثابة ترجمة للأولى.
وهكذا فقد التزم هذه الخطة الصعبة في أجوبته وفتاويه كلها، فكان لا يكتب كلمة فأكثر إلا معزوة، ولا يعتبر من فتاوي أهل العصر إلا ما كان معزوا.

كان العلامة القاضي (النّح) شاعرا مطبوعا ومن شعره:
يا ميُّ إن يمـنعِ الـواشـون وَصلَكُمُ :: حيرانَ لـيس له فـي غـيرِكُم أملُ
ولا سعَتْ بـيـننـا كُتْبٌ لـتُنْبِئَكم :: عـنّا وتُنـبِئَنا عـنكم ولا رُسُل
لـم يمـنعـوا خطراتٍ طالما خَطرَتْ :: منكم على القـلب حـيـن القلب مُشـتغِل
ولا دمـوعًا أفـاضَتْهـنَّ فُرْقتُكـم :: ولا شهـابٌ هـوَى فـي القـلـب يشـتعـل

وله:
أودى زمـانٌ بـالخلـيفةِ مُسعـدُ :: هـيـهـات يُمكـن للقـلوبِ تجلُّدُ
نـبأٌ تأوَّبَنا فبِتُّ كأنما :: جَذْل الغَضَى بـيـن الجـوانح يُوقد
عجبًا لمن يرجو سُلُوّاً بعـدَه :: ولمن يحـاول ضِلَّةً لا تنفَد
أبَني عليٍّ لا تضلَّ حلومُكم :: إن المنونَ لكل حيٍّ مَرْصد
لم لا يكون الـحَيْنُ يُمْنًا عندكم :: أوَ لم يكـن أودَى النبيُّ مُحمَّد
أو لم يكنْ أودَى الذين تخلَّفوا :: مـن بعـدِه حتى كأنْ لم يُعهَدوا
لا تحسَبوا أن القُصـور عـن المدى :: يُردي ولا أن الكـمالَ يُخلِّد
لا تجحَدوا نعم الإلهِ عـلـيكمُ :: بـمُصـابِ مَنْ نَعْماؤُه لا تُجحَد
إن الـمصـيبةَ لا يُعـظَّمُ قَدْرهـا :: والصـبرُ فـي صنْعِ الـمُهـيـمِنِ أحمَد
لكـنَّمـا هـذا مـصـابٌ صبرُهُ :: لا يستقـيـمُ عـليه صخرٌ جلْمَد
مـا ضـاع أجـرٌ للـذي أجفانُه :: تبكـي عـلـيـه وقـلـبُه يـتبلَّد
فـي حقِّ ذاك الرِّزءِ قلَّتْ عبرةٌ :: مـنـا تفـيضُ وزفرةٌ تتـردَّد
إن الـذي فـاه النعـيُّ لنا به :: أذْكى شِهـابًا فـي الحشا لا يَخمَد
فلوَ انّه ألقَى عـلى لُبنانَ ما :: ألْقَى عـلى قـلـبـي هوَى يَتهَدَّد
فتبَيَّنـوا ما قلتـمُ فلئِن يكنْ :: أودى فقـد أودى الـتُّقَى والسُّؤْدُد
غابت بـه أيـدي الـمـنـايا بـيـننا :: كـالـبـدر يأفلُ والكواكبُ رُكَّد
شـيـخٌ يـديـنُ لكل عـافٍ مُرْملٍ ::ولقـد يـديـنُ له الـمـليكُ الأصْيَد
هـادٍ إلى الهـادي الأمـيـنِ وإنه :: فـي مـلَّةِ الـديـنِ الـحنـيف مُجـدِّد
عـن أحـمدٍ ورثَ الخلافةَ مـثلَ ما :: ورث الخلافةَ عـن أبـيـه أحمد
زاد الـمـريـدَ إعانةً وهدايةً :: إذ قـلَّ مَنْ فـي الـحـالتَيْن يُزوِّد
فغدتْ حـبـالُ وصـولِهـا مـرمومةً :: وغصـونُهـا فـيـنانةً تتأوَّد
مـا زال يسعى فـي الـمحـامِدِ يافعًا :: حتى تألَّفَ شمـلُهـا الـمُتبدِّد

وله:
نزلتم بخير يوم خير ببكرا :: فنلتم به فوق السماكين مفخرا
ولم تنزلوا إلاّ بعال من العلا :: ليظهر ما من مجدكم كان مضمرا

وللقاضي (النّح) مساجلة شعرية مع العلامة محمد ولد الداه ولد أحمد فال العلوي رحم الله الجميع، في موضوع “الفتيل” وهو الشاي الأخضر و” النقير” وهو الشاي الأحمر.
يقول محمد ولد الداه:
صروف الحادثات بلا نكير:: تدار على الفتى بيدي مدير
فآونة تدير له كؤوسا :: كشوب الماء بالعنب العصير
وتسقيه أوانا كل كأس :: كطعم الشري ممزوجا بقير
كذا عيش الفتى ما دام حيا :: دوائر بالحلُوِ وبالمرير
شربنا بالدباغ وما دبغنا :: به شيئا سوى حاج يسير
وكاف شرابها لم يغن شيئا :: فلا في العير عُد ولا النفير
عسى زمن الفتيل يعود يوما :: كأيام الخورنق والسدير

ويقول النح:
عليكم ما استطعتم بالنقير :: ولا شرب المزفَت والنقير
فتفضيل الفتيل على النقير :: كتفضيل الفتيل على النقير
وإن يُدر النقير كريم قوم :: عليهم فالمدار على المدير
وكم ضم الفتيل له كبُر :: يضم إذا يزكىَ للشعير
وكم ذهب الأسى عمن تعاطى :: كؤوسا منه كالذهب النثير
إذا دبت حميا كأسه في :: مفاصله مشى فوق الأمير

ويقول (النح) مرحبا بالعلامة القاضي محمذن ولد محمد فال (اميي)
يا حاكمَ الشريعة المُرتضى :: و سيفها الصَّمصامة المُنتضَى
و درعها التي بها يُتقي :: و شمعها الذي به يُستضى
و فارسَ القضا إذا شمَّرت :: عن ساقها الفهومُ و ابنَ القضا
أهلا بما جاوزتَ من بلدةٍ :: تطوي لكَ الرِّكابُ نشرَ الفضا
فلم تزل على العُلا مُقبِلاً :: و لم تزل عن الخنا مُعرضا

توفي العلامة القاضي محمد عبد الرحمن بن السالك رحمه الله سنة 1398 هـ 1978م عن عمر يناهز 97 سنة وأشهر، كانت حافلة بالعلم والعمل والتقوى، في قرية النباغية، ودفن بمقبرة ذويه وقومه (لميلحه).

وكانت جنازته مشهودة رغم عدم توفر وسائل الاتصال إذ ذاك، ووعورة الطريق، فازدحمت أزقة القرية الصغيرة بالوفود الوافدة من شتى بقاع البلاد مشاركين أهله وذويه أحزانهم يوم فاته كما شاركوهم في علمه ومنافعه وفوائده الجمة الغزيرة أيام حياته.

يقول العلامة الشيخ نافع بن حبيب بن الزايد التندغي الفودي في نظمه لوفيات الأعيان:
وعند رأس العام الآخر قضى :: شيخ الشيوخ العلوي المرتضى
حافظ مذهب الإمام مالك :: أعني به العلامة ابن السالك

تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين.

كامل الود

صدقة جارية