أخبار عاجلة
الرئيسية / آخر الأخبار / العلامة الأديب آفلـواط بن محمـدُّو الجكني الشنقيطـي

العلامة الأديب آفلـواط بن محمـدُّو الجكني الشنقيطـي


هو الأصولي المتمكن ، واللوذعي المتفنن ، آفلواط بن محمدُّو “أبتِ” بن المختار “مانّاهْ” بن أحمد ألفغْ .
سمي آفلواط باسم جده لأمه ، فأمه سعادُ بنت مولود بن آفلواط بن باركلَّ الشمشوية .
يقول عمه الشاعر العلَم الامام ابن ماناه مهنئا لها بإنجابها بابنها العتيق بن “أبتِ”:
لِيَهنــأْكِ يا أمّ العتيـق عتيقُكـمْ إذا ما هَنَـا أُمَّ الهـلال هـلالُهـا
هــلال مسـرّات ويُمْـنٍ تهللت لغُرَّتـه الأيـام وانسـاح(1) بالهـا
فمن آل مولـودِ الأغــرِّ خُـؤولةً سنـام ذُرى تـاشمشَ ثـم ثمالهـا
هو الطود إن ماجت من الخوف تِيرِسٌ وزَحزح عنها من عليهـا اهـولالها
وأعـراق مجـد من أَرومـة يَعـرُبٍ كـرام المسـاعي آلُ جـاكان آلُها .

في أواخر القرن الثاني عشرَ أو أوائل الذي يليه ولد آفلواط ونشأ وترعرع
“على أنجاد “آكانَ” الأعالي بحيث الدهرَ ينسكب الربابُ”

في مجتمع ضارب بجذوره في شتى ضروب المعرفة ، مفعم بالقِيَم الفاضلة من عز ونَخوة وسموِّ أخلاق .
مجتمع لا محل فيه لـ”لجهول الممول” كما يقول أحد أفراده العتيق بن أبتِ الآنف الذكر :
ألا يا سليمى لا تعيبي على الدهر ولا تجزعي يومـا إذا مس بالضرِّ
إلى أن يقول:
ولا تغبطنْ عينـاك كل ممـوَّل جهول ولا يدري بأن كان لا يدري
فكـم راغبٍ في صهره ودُنُوّه رجـاءً لرفع القدر والدرِّ والظهـر
فبينا كذا إذ جاءه الحتف فانتهى غنـاه من الدنيـا وصار إلى القبر
فلم نطغ يوما في غنانا ولم نكن لنظلِم جـارا أو نَتيـه من الكِبْـر
ولم نتملّق للغنـيّ ولم نكـن لنخضـع مما مسنـا لبني العصـر
ولم نغشَ أبواب الملـوك لطُعمة يؤملها العـافون بالأُنس والشعـر
وإن لنــا منـه لحظّـاً نُجلّه عن المدح للفجّـار بالنظم والنثـر
ويمنعنا من ذاك عـز ونَخـوة وفضـل ورثناه عنَ آبائنـا الغُـرِّ .

في هذا الجو العلمي المزدهر في تلك الحقبة المضيئة من تاريخ هذه البلاد ، ابتدأ آفلواط مواصلة طلب العلم فتطلبه أولا في محيطه كما هي العادة قبل أن يرتحل إلى الشمال ويمكث فترته الطولى في طلبه ، ولم نتمكن من تحديد شيوخه الذين أخذ عنهم في تينك المرحلتين (2) .ولعل قوة ذكائه المفرطة وسرعة حفظه غطَّيَا فيما بعد على هذا الجانب من حياته ، فـذاع صيته في وقت مبكر .
ويذكر عنه أنه لما بلغ عمره العشرين توفي والده ، وترك ثلة من التلاميذ ، فقام هو بخلافته عليهم ، وكان قد اكتملت لحيته وصار أبا في تلك السن ، ثلاثة نوادر قل أن اجتمعت .
كان آفلواط – رحمه الله – من أفذاذ الرجالات ، المتفوقين في شتى المجالات ، وقد ذكره غير واحد من أعلام هذه البلاد ووصفوه بالعلم والأدب .
فقد نقل عنه باب ابن الشيخ سيديا في كتابه “إمارتا إدوعيش ومشظوف”(3) ووصفه بأنه “من أهل العلم والأدب” .
وأورد له الشيخ محمد حبيب الله ابن مايابى في كتابه “فتح المنعم” (4) بيتين سنعرض لهما لاحقا –إن شاء الله– ووصفه بـ”العلامة الذائق” .
كما ذكره أحمد فال بن آدُّو في رسالة له في الحيازة (5) ضمن أعلام أورد ذكرهم في معرض الاستدلال على أن هذه البلاد لم تخل من علماء وقضاة يُشكون المظلوم ، ويحكمون بين الخصوم .
وقد امتاز بذكائه المتوقد وفهمه النافذ المصيب ، كما شهد له بذلك ابن أخته آدُّو عند ما سأله لمرابط محمد الامين بن أحمد زيدان في لقاء جمعهما ، قائلا: هل رأيت أحدا أفهمَ مني ؟ ، فأجابه بقوله: نعم خالي آفلواط بن محمدّو أفهم مني ومنك .
كما امتاز بخطه الذي كان من إيغاله في الحسن كأنه:
“خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ودت جوارحه لو أصبحت مُقلا”
كان إمضاؤه “خط من لا يخفى خطه”(6).
قال له بعض ذوي الخط الحسن: غصن الخط الذي ترسله ترسله علي (7) ، فأجابه بالقول: أنا لست مرسلا غصني .
وجرى ذكر الخط ذات مرة بحضرته ، فقـال بعض الحاضرين –وكـان رديئ الخط أو عديمه-: إنالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب ، يريد أن يحط من قدر الخط بذلك ، فقال له آفلواط: ذلك في حقه مُعجزة ، وفي حقك مَعجَزة (8) .

وعندما رأى العلامة محنض باب بن اعبيد الديماني خطه (9) قال: إن كاتب هذا الخط قصير القامة . وصدق في فراسته فقد كان آفلواط -رحمه الله- قصير القامة ، شأنه في ذلك شأن أغلب أهل بيته أهل المختار بن أحمد ألفغ ، ومما قيل فيهم:
لا يبلغون ذراعا جلُّ قامتهمْ لكن لهمْ رُتب تعلو على الرتب
وكان مع ذلك هائل القوة بحيث لا تكاد تصدق ما يحكى عنه لولا تواتر الروايات به .
أما عن جانبه الأدبي :
فلا تسأل عن الروض النضير ولا عن طلعة القمـر المنيـر
فقد كان -رحمه الله– شاعرا مفلقا لا كلفة عليه في حوك القريض ، ومما يؤ ثر عنه في هذا الجال قوله الذي أسلفنا: إن بإمكانه أن لا ينطق بمنثور طيلة حياته .
ويتبدى مصداق قولته هذه في نظمه كتاب “تنقيح الفصول من علم الأصول” للشهاب القرافي في قصيد من بحر الخفيف يضم ثمانمائة بيت ، ليس فيها حشو ولا تتميم .
وقد سخَّر هذه الموهبة الشعرية للأغراض التعليمية فنظم كثيرا من المسائل العلمية .
من ذلك قوله عاقدا الحكم في ضالّة الإبل:
رأى عمرٌ ترك المُضَلِّ من الإبْـل تناتج في الصحراء جريا على الأصل
وعثمـان للتعريف سنَّ وبيعِهـا وتوقف أثمــان لمعرفـة الأهـل
كذا في الموطّا مالكُ النجمُ قد روى عن ابن شهـاب فاتّبعْ أثبت النقل .
وقوله –-معددا المواضع التي يرد فيها حكم من نصّبه الحاكم من القضاة- :
قضـاةٌ نصب الحكّـام فعلا فليس يـرد فعلهمُ بحـال
سوى قَسم الغنائم إن أصيبت وترتيب الجيوش لدى القتال
وإقطـاع الإمـام لمن يـراه وتفـريقٍ لمـال بيوتِ مال
وتقتيل البغـاة بلا خلاف(10) وحد القتل في بعض المقـال .

ومنه أيضا قوله ملغزا في الجمعة التي وجبت علي المسلمين وتأخر فعل النبي صلي الله عليه وسلم لها:
أيا فقهـاء العصـر أي فريضـة تأخـر عن إيجابهـا فعلُها النبي
ومن قبلُ صلاها من الصحب عصبةٌ ولم يك –إذ ذاك– النبيُّ بيثربِ .
وقد أجاب عن هذا اللغز الشيخ محمد حبيب الله ابن مايابى بقوله:
هي الجمْعة الغراء كانت صلاتُها عليهمْ بفرض للشـروط بيثربِ
ولم تتوفـر تلك أيـام كونـه بمكـة إذ حزبُ الضلال بغيهب
وحيث أتى المختار طيبة حُتّمت عليـه فصـلاها بمقدمـه النبي
عليه صـلاة الله ما دام شرعه هو المنهج الأعلى على كل مذهب (11) .

ومن طريف ما جرى له مع الشعر أن الشاعر المبدع محمد بن أحمد بن سيد لما قال:
دنا البين من ميمونَ فاعتاضني الألمْ ألا هل لنا بعد التفرق من لَمَـمْ
لحنه بعض معاصريه وقال: إن اللمم الجنون أو صغار الذنوب وأما الالتقاء فهو اللِّمام ، وطالبه بشاهد على ما قال ، فذهب إلى آفلواط وأخبره بما جرى ، فأنشأ له البيتين التاليين ليستشهد بهما على صحة ما قال:
يا ليت شعـري –وما ليتٌ بنافعـة إذا أتى دون لبنى القـاعُ والأَكَمُ–
هل قد بقَى(12) لي قُلال(13) من مودتها؟ أم هل لنا بعد تشتيت النوى لمم؟(14) .
شارك آفلواط –رحمه الله- في إثراء النشاط العلمي في زمنه ، ومن غير المستبعد أن يكون خلف عدة
مؤلفات ، غير أن عوامل البدو وزهد الأسلاف في تدوين أخبارهم ابتعادا منهم – في اجتهادهم –عما يؤدي إلى الظهور أدت إلى ضياع جل – إن لم نقل كل – آثاره ، اللهم إلا ما قد يكون من تلك الآثار لا يزال مندسّا بين طيات ما أسأرت يد الضياع من مخطوطات أهل هذه البلاد .
وربما تكشف الأيام عن بعض تلك الآثار .
ولم نطلع له إلا على تأليفين أو – على الأصح – ذكر تأليفين ، أحدهما نظمه كتاب “تنقيح الفصول” الذي مر ذكره وقد استهله بقوله:
أصبح العلم فـاقـدَ الطـلاب هجرته الكهـول بله(15) الشباب
غير رفض(16) من المشـايخ نزرٍ قـد تولوا وآذنـوا بالذهـاب
حبـذا هـمْ من ظاعن لا يمنّي مَن سقـاه مُـرَّ النوى بالإياب
إن عينـا لم تبكـه بدمــوع لجمـود جـديـرة بالعتـاب
فدعوتُ الأصحاب كي ينجدوني فإذا الصحب فاقدو الإصحاب(17)
إلى أن يقول:
ذاك علم الأصول أشرف علم ذو العبارات والمعـاني العِـذاب
فتدبـرت فيه عــدة كتب فاطّبـاني(18) تنقيحها للشهـاب
فنظمت المهم من ذاك جهدي تابعـا جـل لفظه غيـر نـاب
حاذفا بعض المُثْل منه اختصارا ومن الخَلْف(19) خيفة الإسهـاب
أسأل الله أن يُسنِّيَ (20) أمـرا قصُـرت عنه همة الأصحـاب .
وثانيهما رجز عقد به باب التركة من مختصر خليل يقول فيه:
لم أَعْدُ ما قال خليل فيه ولم أُقصِّر دون ما يحويه
عاش آفلواط مائة وإحدى وعشرين سنة ، وقد ظل طوال هذا العمر المديد ممتعا بحواسه لا يسأل عن شيء إلا أفتى فيه ولم تسقط له سن إلى أن تُوفي أواخر العقد الثاني من القرن الماضي ، ودفن في “أكان” رحمه الله رحمة واسعة .

ـــــــــــــــ

(1) انساح باله اتسع .
(2) يذكر من بين شيوخه في مرحلته الثانية شيخ اسمه الطالب عثمان ليست لدينا معلومات عنه .

(3) ص 217 تحقيق إزيد بيه بن محمد محمود ، ط الثانية.
(4) ج 3 ص 143 أثناء شرحه الحديث “من جاء منكم الجمعة فليغتسل” .
(5) مخطوطة .
(6) وقد بلغ خطه من الشهرة ما جعل الشاعر الشعبي الشهير محمد فال المعروف بـ”القلب” – المتوفى حوالي 1349 هـ – يعتبر الخط القلَمي منحصرا فيه في شعر شعبي متداول .
(7) تعريب لمثلٍ شعبي مدلوله رتبتي تلي رتبتك ، وأصله أن الجماعة إذا سلكت طريقا ضيقا معترضا بأغصان الشجر فاعترض أحدَهم غصن ( عرش ) أزاحه ليمر مكانه فإذا جاوز محله أرسله فيقع على من يليه .

(8) بفتح أوله مصدر ميمي أي عجز ، أما الأولى فمضمومة الميم ، ومعجزته صلى الله عليه وسلم ما أعجز به الخصم عند التحدي . القاموس المحيط .
(9) في مراجعات جرت بينهما في مسألة فقهية تتعلق الحبس .
(10) فيما مضى . كذا وجدت في الأصل الذي نقلت منه.

(11) أورده الشيخ محمد حبيب الله في “فتح المنعم شرح زاد المسلم” ثم قال: وحاصل ما أشار إليه صاحب البيتين أن الجمعة شرعت بمكة المشرفة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها بها وصلاها بالمدينة المنورة جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بأمره قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لها ، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صلاها في مسجد رانوناء –بوزن عاشوراء– مسجد بني سالم بن عوف قبل أن يصل إلى داخل المدينة، وهذا المسجد بين المدينة وقباء بواد هناك، وقد زرته وصليت بمحرابه الذي أدركته مبنيا ولا أدري ما حدث له بعد توطني لمصر . اهـ منه ج 3 ص 143 في كلامه على قوله صلى الله عليه وسلم: ” من جاء منكم الجمعة فليغتسل”.
(12) بفتح القاف لغة في بقِي بكسرها .
(13) القلال بوزن غراب وسحاب القليل .
(14) أوردنا هذين البيتين على اضطراب في روايتهما ويُذكر أنه أوعز إليه أن يعزوهما – إذا طولب بذلك– إلى أحد الشعراء الذين ضاعت أشعارهم لعدم تدوينها، وهذه القصة تذكر بما جرى للعلامة سيدي عبد الله بن محم العلوي المعروف بـ”ابن رازقه” مع السلطان مولاي إسماعيل أو ابنه محمد كما هو مدون في وسيط ابن الأمين .
(15) اسم فعل بمعنى تَرْك .
(16) رفوض الناس فرقهم ، وسمعت بعضا يعزو إلى الشيخ الحسين بن آدُّو -وكان كالربيب لآفلواط رحمهما الله- أن الرفض الجماعة تتفق أهدافهم وتفترق أبدانهم .
(17) أصحب انقاد بعد صعوبة.
(18) طباه طَبْوا دعاه ، كاطَّباه .
(19) الخلْف الرديء من القول .
(20) سنّاه تسنية سهله وفتحه .

صدقة جارية