قبل أن تكون هذه المنطقة الممتدة من مصاب نهر صنهاجة (نهر السينگال) إلى واد نون، ومن عليها شيئا مذكورا، كان “انْيُبرش”ْ وهي كلمة صنهاجية (ومعناها بالعربية ذو الجنة) مزارا وبقيعا مقدسا، يحتضن أعلاما وأولياء وصالحين ومجاهدين، وظل على ذلك الحال إلى يوم الناس هذا.
يؤكد الدارسون لتاريخ هذا المنكب، والمهتمون به، على أن “انيبرش” كان أول ما كان مدفنا للرعيل الأول من مسلمي تندغه، قبل أن يتأسس من جديد حين استقبل العلامة الشيخ أحمد ولد محمذن ولد بحبيني – تقريبا – سنة 1660م، ومنذ ذلك التاريخ والمدفن قبلة لأهل بحبيني عموما، ومعظم بطون الركاكنة، وبعض قبائل تندغة، والكثير من قبائل المنطقة.
وكان الناس ينقلون إليه موتاهم من بعيد؛ لما يعتقدون فيه وفي ساكنيه عليهم رحمة الله من بركة وفضل، وما تواتر عنهم أحياء وأمواتا من باهر الكرامات وخوارق العادات..
في بقيع “انيبرش” الطاهر يرقد – بالإضافة إلى العلامة الشيخ أحمد ولد محمذن ولد بحبيني الذي تأسس عليه “انيبرش” في طبعته الحديثة –
العالم الولي الشيخ سعد ولد اليعقوبي، (ادو) وهو من هو علما وفضلا وقد تخرج على يديه الكثير ما أعلام المنطقة مثل الشيخ محمد لحبيب ول أنتف
وقد رثاه بقصيدة مطلعها :
ثلمة في الدين عمت ما تسد
موت سعد فقده نحس الأبد
ومن مادحيه العلامة الشيخ گلاه رحمه الله،
العلامة الصالح أحمد ولد عبد الله ولد أحمد زروق،
والعالم الفاضل المسك ولد آنِّيهْ ولد المختار ولد بحبيني، وهو الذي حامى عن تندغه في النزاع الذي حدث بينهم مع بعض قبائل المنطقة، على ملكية أرض نواكشوط وما يحيطها، والأحقية في إدارة التبادل التجاري مع الأربيين من خلال الموانئ البحرية المطلة على حيز نواكشوط حينها، ذلك النزاع الذي استدعى من الأمير أعمر ولد المختار التروزي سنة 1824م، استقدام قاض من خارج المنطقة ليبتَّ في القضية، وهو القاضي النابغة الغلاوي، فأقام محكمة مشهورة، وبعد جلسات مطولة أبلى فيها المسك رحمه الله بلاء حسنا، أصدر القاضي النابغة حكمه نظما خالدا إلى يومنا هذا فقال :
أحكم بأن الأرض أرض تندغا @ ومن أراد سبقهم فقد بغى
وقد علق عليه العلامة محمد عبد الرحمن ولد الرباني بل قل يا سيدي القاضي : ومن أراد سبقهم فيدمغا.
ومن نزلاء فردوس “انيبرش”
الشيخ المُمَدَّح صلاحي ولد المقري، والشيخ كاشف ولد جدّنْ، وأبناء العلامة الصالح والشاعر المفلق الشيخ گلاه، والعلم الفاضل حبيب ولد محمدو ولد إمامي التندغي الفودي اليحيوي،
والزعيم والشيخ محمدو بن النيه بن شعبان، والفاضل ابن الأفاضل محمدن بن المختار بن لولي بن اليعقوبي، والعلم الصف بن مختار الله، والكرام أبناء ماماه المحميين،
والمجاهد الكبير أحمدو بنبه ولد بده السباعي الدميسي، وابنه، والفارس اسلامه ولد الحافظ الدليمي، والفتى محمد ولد لكويري، والفتى ولد اكبيديش، ومن من دفن فيه في الفترة الأخيرة المستشار سيدي محمد ولد هيداله لعروصي، والد الرئيس الموريتاني السابق محمد خونه ولد هيداله، ومستشار الزعيم أحمدو ولد حرمه ولد ببانا أيام كان ممثلا لموريتانيا في البرلمان الفرنسي، وغيرهم كثير..
ويفتأ الشيوخ من الأهل يذكرون زمن الوصل.. أيام كان العيش غضا، والناس جيرة، والزمان سلاما.. يوم كان أهل تجنين وتنويش وبو احديده ووراره وتنسويلم، وأهل نواكشوط وتيارت الحسيان، وأهل آمرات واحسي الخالص، وأهل تفرغ زينه والسبخه وأغنودرت وازبار واتْوَيْنِيشَهْ و فروة گابون، (يتمادُّ الگدحان)
ثم حالت أحوال وتصرفت صروف.
بعد ميلاد “انيبرش” بمئات السنين، وتحديدا قبل ستين سنة تقريبا، تقرر أن تكون نواكشوط عاصمة للجمهورية الإسلامية الموريتانية، فرحبت ساكنة المنطقة الأصلية بالقادمين وأنزلتهم مكانهم اللائق بهم أنظمة وشعبا، وفاء لدينها وأخلاقها، وإيمانا ببواكير دولتها المدنية الجامعة العادلة، وتغاضت وتسامت عن حقوقها القانونية والشرعية في الأرض، وظلت العاصمة تتوسع في كل الاتجاهات، وفي الفترة الأخيرة
وصل “التوسع” إلى بقيع “انيبرش” فظهر من يستظهر أوراقا مزورة، ومخططات غير مخططة، تحول المدفن ومحيطه إلى قطع أرضية، تباع وتشترى، وتشاد عليها الدور والمتاجر والمخابز، وجاء تدخل وزير الإسكان غير الموفق أمس الخميس وحلوله المستفزة ليؤكد التعاون والتواطؤ بين سماسرة الأرض وقطاع الإسكان وهو أمر شائع ذائع..
أجل.. يحق للدولة أن تتصرف في المقابر وغيرها من الأوقاف والأملاك الخصوصية، لمصلحة عامة واضحة لا شبهة ولا شية فيها، بعد عرض الأمر على المعنيين به، وتقديم التعويض العادل، أما أن تصادر الأوقاف المقدسة، وأملاك الناس الخاصة، التي توارثوها أبا عن جد، وتتركها نهبا للسماسرة والمرتزقة، الذين أعمى الجشع أبصارهم وبصائرهم، فذلك ما لا ينبغي أصلا، وما لا ينبغي لا ينبغي.. ولن يسمح به، ثم إن مقبرة هذا تاريخها، و هؤلاء نزلاؤها، وهذا تعامل أهلها مع الدولة وعاصمتها وساكنتها، لا ينبغي أن يكون هذا هو حظهم من قرارت دولتهم، وتصرفات إدارتها وتجارها، ومواقف نخبها!
قد يسكت الناس عن غبن مورس ويمارس عليهم في أمر دنياهم.. ولكن لا يظن الظنون أنه من الوارد بتاتا السكوت أو المهادنة عن مراقد أسلاف رقدوا بسلام في تخوم أرض عمروها وملؤوها علما وأمنا ويمنا قبل مئات السنين، ليجرفها من لا يرى فيها أكثر من مجرد مكان يصلح للمتاجرة والمضاربة والمقاولة.. و ليكن في كريم علم من يريد أن يعلم أن العاصمة مسورة من معظم جوانبها بمدافن مقدسة سبقت وجودها و وجود من أوجدوها، ولن نتجاوز عن
“انيبرش” اليوم ولا عن “وراره” غدا .. أو ذرة تراب في مدفن من مدافننا أينما كانت..
ولله الأمر من قبل ومن بعد.