حدثني شيخي امحمدْ (كرَّاي علما) بن محمد بابَ بن امحمد بن أحمد يوره قال:حدَّثني المقريء الضابط الصدِّيق سيدي بن امحمدْ بن والد بن الحريري و هو ابن عم ابن أحمد يوره و ابن شيخه في القرآن.قال:دعاني امحمد بن أحمد يوره مرة لأرافقه في رحلته الموسمية المعهودة إلى اندر في السنغال و أنا إذْ ذاك في ريعان الشباب.غادرنا الحي في مكان ما من منطقة إكيدي فوصلنا مدينة روصو بعد جهد جهيد.و أثناء وجودنا العابر في تلك المدينة الحدودية ، لاحظتُ حركة بشرية نشِطة غير مألوفة ذات كثافة مضاعفة ، سرعان ما تبيَّنت أن سببها وجود الشيخ أحمدُّ بمبَ ضيفا على مريديه في الضفة الجنوبية من النهر.أخذتني فرحة عارمة لسببين : أولهما أنني أشتاق لرؤية ذلك الشيخ الذي ملأت شهرتُه الآفاق و ثانيهما أنني على يقين من أنه لو كتب لنا لقاؤُه لأغدق على مرافقي من الأموال ما أغناه عن مواصلة السفر جنوبا فعدنا إلي الأهل سالمين غانمين حيث أسترجع مكانيَ السليب في دوريِّ مباريات كرة المضرب التقليدية و هو دور حزَّ في نفسي فقده كثيرا إبَّان المغادرة. هرعتُ إلى لمرابط امحمد أُخبره بالنبأ العظيم فما لاحظت لديه ما كنت أتوقعه من التفاعل بمثل هذا الخبر! ثم استرجعتُ أنفاسيَ المحبوسة و أعدتُ عليه الخبر مشفوعا باقتراح مهذَّب بالسعي في لقاء الشيخ.عندئد فاجأني بقوله:” إليك عنِّي يابن والد، و اللهِ الذي لا إله إلا هو إني ليَنتابني حالٌ يتملَكني جرَّاءه اليقين أنّ جسمي يتلاشى ذوَبانا فيستحيل ماءًا دافقا تطفو على سطحه شعيْرات لحيتي هذه!” قال سيدي بن والد: هنالك أسفت و عزفتُ عن ذلك الحديث و استأنفت ترتيبات السفر إلى اندر الذي وصلناه عشية ذات اليوم.
و في مدينة اندر أنزلت لمرابط في محل إقامته الإعتيادية في حي” لوضه ” و سارعتُ إلى وسط المدينة فإذا الأنباء السائدة فيها تنصبُّ حول وجود الشيخ سيديَّ بابَ و الشيخ سعد بوه منذ عهد وجيز. هنالك عدتُ مسرعا إلى لمرابط و قلت له: جئتُك بطارئة أيُّ طارئة! لقد سبقنا إلى المدينة الشيخان بابَ بن الشيخ سيديَ و الشيخ سعد بوه بن الشيخ محمد فاضل، فما عساه يكون نصيبُنا في هذه المدينة مع هذين؟ أجاب لمرابط امحمد قائلا: و ما يدريك لعلَّ الله يضرب لنا سهما ممَا في يديْ هؤلاء ؟! قال الراوي: هنا استدركتُ فقلتُ: أما أنت فقد جعل الله لك حظا في تلميذك ” سليمان المربط ” فهوكفيلٌ لك بقضاء حاجاتك في الغيبة كعادته! فقال لمرابط امحمد: ” أما هذا فقد رأيته البارحة في عالم البرزخ هو و آمنة بنت ابريْكْ “! قال الراوي : أما المرأة فعهدي بها في الخيام ربعة ذات قامة معتدلة تنمُّ عن صحة جيِّدة و أما الرجل فهو أشهر من أن تمرَ وفاته في المدينة دون أن يذاع خبره و ما سمعت بذلك الخبر فيما بلغني من أنباء! فحرصت على التأكد من الموضوع و ذهبتُ مسرعا إلى ضيعة المَعنيِّ فما هالني إلاَّ طلعته البهية و هو الفارس المغوارُ بلحمه و شحمه يبدو وسط مربضه يروِّض خيله الأصيلة كعادته كلَّ أصيل !و هنا عدتُ من جديد إلى لمرابط امحمد فقلت له:”عهدي بتلميذك سليمان المربط يروِّض خيلَه السَّاعةَ في مربضه المعلوم لديك”.
عندها نظر إليَّ لمرابط امحمد وقال لي بثقة المتيقِّن: ” و اللهِ لا يروِّضنَّ من الخيل إلاَّ ما كان منها في عالم البرزخ! ” تعجَّبتُ من قسم ذلك الرجل العالم الصالح و جاء الليل فبقي لمرابط يستقبل المسلِّمين و ذهبت لشأني حتَّى إذا حان وقت العِشاء و العَشاء كنا على موعد في دار الترجمان الأديب محمدن بن أَبْنُ المقداد حيث التحقنا بالقوم من بني جلدتنا من البيظان الوافدين من كل مكان.
تناسيت الموضوع و لفرط التعب الناتج عن الجد في السفر اتخذتُ لنفسي مكانا في فناء الدار وضعت فيه فراشا آويت إليه مبكِّرا و أخلدتُ إلى النوم.و بينما أنا أغطُّ في سُبات عميق ، إذا ربُّ المنزل الترجمان ٱبنُ المقداد نفسه يحمل في يده “حسكةً ” نورها خافتٌ و هو في ملابسه الليلية المنحصِرة في”أفروال” أي ملاءة يلفُّها حول بعض جسمه يستر بها ما بين السرَّة و الركبتيْن و هو يوقظ النائمين وهنا من الليل برفق و يقول بحسانيته الفصيحة الصحيحة ما مضمونه:” استيقظوا يرحمكم الله فهذا نجلُ سليمان المربط ينعي أباه و يدعونا لتجهيزه “. نعم إنه ذات الرجل المنعيِّ سابقا يُنعى من جديد فبينما كان يروِّض خيله تلك إذْ وثبتْ به إحداهنَّ فما عليها ثبتْ و إنها وقع طريحا على الأرض فانكسر بعض عظامه كسرا عجز المختصون في المستشفى عن جبره فأودى بحياته.
قلت: و سليمان هذا هو الذي يشير إليه ابن أحمد يوره في شعره بقوله:
تطاول ليلي ولم ينقـض
ونام الخلي ولم أغمــض
فتبا ” للـوض” ورهبانها
إلى قصر سندونة الأبيـض
فتينجكين فكرجـانها
لقصر سليمان ذي المربـض
قال الراوي : و ما لبثنا أن قدم علينا من الخيام من حمل إلينا وفاة المَنْعية المعنية في قول الرجل فتعجبتُ من ذلك.
وفي الأيام القليلة الموالية ما غشيتُ مجلسا إلاَّ لقيت به من يخبرني بأن العلاَّمة بابَ بن الشيخ سيديَّ يبحث عنِّي فأتعجب من ذلك لفارق السن و انعدام القواسم المشتركة بيننا، حتَّى إذا جاءني رسوله يطلبُني مباشرة فرافقته إليه.قال لي الشيخ سيديَّ بابَ : ” إنني جئتُ إلى هذه المدينة بالولد أحمدْ و هو مريض و قد علِمتُ بقدوم امحمد بن أحمد يوره إلى هذه البلاد و قيل لي إنك الوسيلة الناجعة الموصِلة إليه و أريدك أن تبلغه عني رغبتي في أن يخصه منه برقية شافية.قال الراوي: ما إن أكمل الشيخ حديثه حتَّى انطلقتُ كالسهم فأدَّيت رسالته لصاحبها بأمانة.
و بسُرعة كذلك استجاب ٱمحمد فذهبنا معا إلى الشيخ سيديَّ بابَ فجئناه ضُحًى فوجدناه جالسا غربيَّ المنزل محلِّ إقامته على ” إلويشه” فسارع لمرابط امحمد هاويا نحوه و جلس أمامه خاشعا و أمسك بيده اليُمنى أصبع أحد رجليه و لم يزل يمسكه و هو يكرر قوله بالفُصحى: ” هذا مقامي منك ! هذا مقامي منك ! هذا مقامي منك ! ” .
و ما إن انتهت مراسيم السلام المعتادة حتى دنا منه الشيخ فقال له:” إنَّني جئت بالبنيِّ أحمدَ مريضا و قيل لي إن حالته تستدعي دخوله ” دارَ النصارى” يعني المستشفى و ذلك ما لا أرجوه، فألتمس منك له رقية يُغنينا بها الله عن ذلك “.
عندئذ أجاب امحمد بأسلوب ” المجذوب ” الواثق بالله: ” أنا أرقيه لك فيُشفى بإذن الله و ما هو بميِّت في هذه البقاع و إن أردتَ أن تجرِّب مدى صدقي في ما أقول فلتُقِمْ به فيها ما تشاءُ “! عندها تهلل وجه الشيخ و لم يزلْ يسأل لمرابط متعجبا لا منكرا فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم ! ما ذا قلتم؟ فيعيد عليه امحمد ذات العبارات حتى سمعها منه ثلاث مرات متتالية! قال الراوي : ثمَّ نهض ٱمحمد من المجلس و هو يقول أين هو أحمد؟ فأشار الشيخ سيديَّ بابَ إشارات متزامنةً إحداهنَّ إلى من يرافق لمرابط امحمد ليوصله إلى حيث يرقد الولد و الثانية إليَّ بأن ألزم مكاني إلى جانبه إلى حين، و الثالثة إلى أحد مرافقيه ليناوله كيسا أخرج منه نقودا فسلمني منها مائة أوقية لابن أحمد يوره و أهداني خمسة عشر أوقية ! إلاَّ أن طول الوقت الذي استغرقه عدُّ تلك النقود كاد أن يكدر علي صفو سعادتي بها إذ كنت أستعجل اللحاق برفيقي حتى لا يفوتني ما سيحصل بينه و بين الولد! و بسرعة البرق
ٱنطلقتُ فأدركته و هو يتأهب للدخول عليه في غرفته الخاصة في المنزل الذي كنا نستظل بظله و الدليل يقول له: هذا ابن أحمد يوره أتاك ليرقيك!
فاستدرك امحمد قائلا:” بل لينال من بركتك! قال الراوي: دخلنا فوجدنا أحمد مضَّجِعا على قفاه على سرير مرتفع .و ما زاد ابن أحمد يور في ظاهر الأمر على أن وضع يده اليمنى على أحد القضبان الركنية للسرير و خرج من البيت، فودع الجماعة و عدنا إلى حيث نقيم.
قال العلامة كرَّاي: قال الراوي: ” و في عشية اليوم ذاته عرَّجتُ على محل إقامة الشيخ سيديَّ بابَ عليَّ آنس من خبر أحمد شيئا و و الله الذي لا إله إلاَّ هو لقد أبصرتُه جالسا شرقيَّ الدار في ظلها مُسندا ظهرَه على جدارها موليًّا وجهَه شطرَ القبلةِ يُمسك في يده اليمنى قشرة ليمون يُمِرُّها على وجهه يستعيد بها نضارة بشرته! “.
قال الراوي: و في أحد الأيام الموالية جاءني الحضرامي بن الشيخ سعد بوه يطلب هو الآخرموعدا مع لمرابط امحمد فرتبتُ له معه لقاءً حضرته فقال له: إن جسدي قد كُسي بهقا أعيى هؤلاء الكبارَ.. و هنا قاطعه امحمد سائلا: و من هم أؤلئك الكبار؟ فردَّ قائلا :هماالشيخ سعد بوه و لمرابط ببَّها .قال امحمد :” ما ردُّوهَ أعلِيَّ! أما أنا فسأرقيك و تبرأ بإذن الله .و سيحمل الرقيةَ إليك صاحبك هذا مشيرا بيده إليَّ”.
و بعد أيام ناداني لمرابط فسلمني ورقة مطوية و قال لي أوصل هذه الورقة إلى صديقك الحضرامي و قل له أن ” يخبط أعليهَ اكتابْ” أي يعلقها محفوظة في قطعة من جلد من صنع الصانعة التقليدية فلانة القاطنة في حي ” بوخمبايْ ” .فأسرعتُ أحمل إليه الورقة و أنا أحافظ عليها مطوية كما ناولنيها لمربط امحمد .
و في طريقي إلى حي بوخمبايْ حيث مظنَّة وجود صديقي الحضرامي ، كنت أغالب فضولي إذ تحدوني رغبة جامحة في فض الكاغد للإطلاع على ما بداخله حتى إذا عبرتُ النهرَ مغرِّبا و أنا أتوسط الجسر المعروف اصطلاحا ب ” صالتْ أهل محمد لحبيب ” استسلمتُ غلبة للفضول و وقفت في منأى من الأنظار و في مأمن من الرقباء و فككتُ الرسالة فإذا بها مكتوب : ” الحضرامي ول الشيخ سعد بوه ول الشيخ محمد فاضل .ول مامينَّ وخيرت بالحضرامي أُ وخيرت بالشيخ سعد بوه أُ وخيرت بالشيخ محمد فاضل أُ وخيرت ابْ مامينَّ “!
تعجبت وأعدتُ الورقة إلى شكلها الأصلي و استأنفتُ السير حتى وصلتُ إلى وجهتي المقصودة ، فلقيت الصديق و أدَّيت الأمانة مشفوعةً بالصيغة العملية لحفظ الرقية و سميت الشخص المقترح لتنفيذ العمل و عيَّنتُ مكانه و ما هو بالبعيد .عندئذ صادف ذلك هوى في نفس الشريف و بادر فقال:” و الله يهو بعد ألَّ امرابطِ آنَ حكْ !”
من هنالك ودَّعتُ الحضرامي و لم نلتقِ إلاَّ بعد ذلك التاريخ بأسبوعين كاملين سافر خلالهما إلى دكار كما قال.فاحتضنني و ذهب بي إلى منزل لأحد تلاميذه من أبناء المدينة و ولج بي إلى غرفة نوم بها دولاب تتوسطه مرآة عمودية فاخرة بقامة رجل معتاد ، ثم نزع ثيابه و أراني مواقع من جسده كان أطلعني عليها من قبل و هو يقول:” انظر هل ترى أثرا مما كنت أطلعتك عليه من ذي قبل؟!” قال العلامة كراي :قال الراوي:” و و الله الذي لا إله إلاَّ
هو لقد اختفى ما كان بجسم الرجل و عاد جسده سليما ناصعا كأنضر ما يكون!” و أرسل معي مبلغا سلمتُه لابن أحمد يوره.
هكذا رويتُ مباشرة عن شيخي العلامة كراي بن أحمد يوره و قال :”هكذا حدثني ذلك الصادق الصدِّيق القاريء سيدي بن والد تسع مرَّات فما غيَّر منها حرفا عن موضعه”.
قيل إن هذه الرحلة هي التي أنتج فيها امحمد بن أحمد يوره قطعته البديعة:
ألا يا رسول الله يا أشرف الـور ى
و يا من هو النور المنير المنـور
عليك صلاة الله مسيا و بكــرة
وأزكى سلام فيه مسك و عنبر
مرامي رزق واسع يتيســــر
و نصر و رضوان من الله أكـبر
تجنبني الآفات ما دمت ســـالما
وأنجو من الروعات ساعة أقبر
رحم الله السلف و بارك في الخلف .