هو كمال الدين محمذن “لمجيدري” بن حبيب الله “حبللَّ” بن الفاضل (الفاللِّ) بن أشفغ موسى، عـد ضمن أربعة لم يبلغ أحد في هذا القطر مبلغهم وهم: لمجيدري، وسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، ومحمد اليدالي، و ابن رازﮔـه.
تربى لمجيدري في كنف خال والدته – مريم بنت أشفغ محمد المجلسية- الشيخ محمذن (آبَّ العَلَمْ) بن المختار بن أشفغ موسى فنهل من معين علمه الظاهر، وتعلل من صفو علمه الباطن، وحمل اسمه. أما لقبه “لمجيدري” فلقبه به سلطان المغرب سيدي محمد بن عبد الله لظهور أثر مرض الجدري على وجهه، وزوده عند عودته إلى شنقيط بكثير من الهدايا والكتب، هي أصل المثل الشعبي: «أصلْ مَـاهِ أمْجيـبتْ لمجيدري».
قال العلامة محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي في كتابه “العمران”: «…وكان لا يبارى في الكرم، فأخبرتني والدتي رضي الله عن الجميع أنها أدركت مجيئه من الحج وهي صغيرة جدا. وأخبرني غيرها أنه يوم مجيئه لم تبق امرأة إلا فرحت بما يناسبها من حلي ومن حرير وخرز جيد وغير ذلك، ولم يبق صبي إلا فرح بما يناسبه، وأما أنا فلقد أدركت كتبه التي جاء بها كالبخاريين وغيرهما،…».
والى هذه الكتب أشار الشيخ محمد المامي في قصيدته الدلفين بقوله:
وساعـدت كتـب السلطان دولتهم == فهم بحـور أمـدتها طـوافين
فكيف تهدى التوابيت العظام إلى == من حكمه أنه فيهن مسجون.
أخذ لمجيدري عن أجلاء عصره كالعلامة الشيخ أحمد محمود بن أشفغ الخطاط رضي الله عنهما، والعلامة المختار بن بونه، والتقى أثناء رحلته إلى المشرق بمشايخ أجلاء. وأخذ عنه في بلاده، وخلال رحلته جم غفير، منهم من الشناقطة: العلامة محمد بن محمد سالم، والعلامة البخاري بن الفلالي، والعلامة المامون بن الصوفي، والعلامة مولود بن أحمد الجواد، وأشفغ نل بن عبد الله الأبييري.والشريف الشيخ سيد محمد التشيتي.
وحظي لمجيدري حيثما حل بمكانة كبيرة، ولقي إبان إقامته بالمغرب كثيرا من العلماء والأعلام، وحصلت بينه وبين بعضهم مباحثات ومساجلات علمية وأدبية، كتلك التي حصلت بينه وبين العلامة أبي الفيض ابن حمدون بن عبد الرحمن بن الحاج السلمي المرادسي الذي ربطته به على ما يبدو علاقة متميزة. ويستشف من مساجلتهما أن سببها هدية أهداها ابن حمدون للمجيدري فردها، فعاتبه ابن حمدون قائلا:
بكت حمامات أيكات بأنات == مغردات بأصوات وأبيات
وأذكرتني الحمى وساكنيه ذوي== زهد ونسك وعرفان وعفات
تعففوا عن جميع ما يشين وما == تعففوا عن قبول للهديات
إذ كان فيه تواصيل ومرحمة== تهدي الحقود إلى أوج الموداتِ
إن كان في ردها درء لمفسدة== ففيه ترك مصاليح كثيرات
والله لم يبق لي طرف أراك به== من الحياء ومن عظيم هيبات
فأجابه لمجيدري بقوله:
اصفح فديتك واغفر لي إساءاتي == فإنني جاهل كثير زلات
ولم تكن نيتي ـ والله يعلم ـ ما == يغيظ يا سيدي حمدون خلات
بل خوف تلك الأمور اللاء قلت لكم == وما مفاسدها عنكم خفيات
وفى الذي قد حوى كريم علمكم == من علم أدياننا سد الذريعات
ودرء مفسدة مما يقدمه == عن جلب مصلحة أهل السيادات.
ويكفي لمجيدري مكانة في المغرب أن الشريف السيد أحمد بن إدريس السجلماسي مؤسس الطريقة الإدريسية كان من بين من أخذوا عنه، وتعرف عن طريقه على الشيخ عبد الوهاب التازي رضي الله عنهما الذي كان يجلس في حلقة درس السيد أحمد بن إدريس دون أن يعرف له مكانة، وقد ساق هذه الأخبار مفصلة الشيخ يوسف النبهاني في الجزء الأول من كتابه “كرامات الأولياء” عند تعريفه بالشيخ سيد أحمد السجلماسي، وأوردَها صاحب “مخـتـصر الفوائد الجَلِيّة في تاريخ العَائلة السَنُوسِيَّة”، عبد المالك بن عبد القادر مختصرة، قائلا: «… وكان السيد أحمد بن إدريس يرجع في أموره ومشاوراته وسلوكه إلى الشيخ لمجيدري الشنقيطي، وكان لمجيدري تلميذاً للشيخ عبد الوهاب التازي.. وصادف أن عرضت مسألة للسيد أحمد بن إدريس فاستشار فيها شيخه لمجيدري فقال له: حتى أشاور شيخي التازي.. فقال له السيد أحمد بن إدريس ألك شيخ أكبر منك؟ قال نعم! شيخي وعمدتي هو الشيخ عبد الوهاب التازي، فقال له: إذاً اجمعني به.. فأتى لمجيدري إلى التازي وأخبره فقال له ذات مرة: ليأتني… فجاءه الإمام أحمد بن إدريس وأخذ عنه العلم وانقطع له كلياً، وكان يلازم طريقة الحياء معه ولا يرفع صوته عنده …».
وكان لمجيدري قد عرَّف إبان اقامته بالمغرب السلطان سيدي محمد بنسبه الجعفري، وطرح عليه قضية الأوقاف الحجازية وحرمان الشناقطة منها، طالبا منه التدخل لصالحهم، حيث كان صهرا لأمير مكة الشريف سرور. وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله يمت للشناقطة بصلة وطيدة، فجدته لأبيه خناثة بنت بكار بن ٱعلِي الشنقيطية البركنية الجعفرية كما هو معروف.
ولما غادر المغرب إلى الحجاز بقصد الحج مر بمصر، ولقي علماءها فأدهشهم بسعة علمه، وقوة حفظه، وتمكنه في علم الأسرار. ورد في مقال تحت عنوان “ملامح من العلاقات الثقافية والدينية بين السودان وبلاد شنقيط” للباحث السوداني إبراهيم الدلال ما نصه: «وكذلك لمجيدري ولد حب اللَّ اليعقوبي وقد بهر علماء الأزهر بقوة الحفظ والاستظهار».
وقد استفاضت الروايات أن لمجيدري لما قدم مصر تصدى له علماؤها ليختبروه كما هي عادتهم في مجابهة وامتحان العلماء الوافدين عليهم، إلا أن لمجيدري لما أدرك الأمر بادرهم بقوله: إنه سيخصص هذا اللقاء للتعارف.. وقد ذكر المختار بن حامدن طرفا من هذه القصة فقال: «… رحل إلى مصر فأكرمه أميرها بعد أن امتحنه العلماء فرفعه الامتحان، قيل إنه جلس له أربعة ليناظروه فقال لهم: أما اليوم فأنتسب لكم إلى عشرة آباء وانتسبوا لي كذلك، فإذا كان من الغد تناظرنا، وانتسب إلى جده العاشر وطلب منهم أن ينسبوه كما نسبهم فلم يجد عندهم حفظا لذلك». والى ذلك أشار الشيخ محمد المامي بقوله:
إل اﮔْطع زَرْبَ اغَرَّجْ == كانو اﮔِد اِجَرْجره
ﮔلول مصر تجَّلَّجْ == إلَيْن تنْظَمْ دفتره
والـلَّ اتْسَلَّمْ يوم الـحَجَّ == الثالْـثَه ما تجبـره
يالـواعـد الجـامع الأزهر== وابْـطَـاحْ مَـكَّه والـمَـشْـعَـرْ
إلى أن يقول:
لـمْـغيربِ إل احـاجيكــم == مَـهُـــــون أغباهأعليكم
بن عم لِ فايت فيكم == لصـﮕـار منـكـم نـﮕـــره
وبْـمَــــارتُ مـــــا تــخـــفـــيــكـــــم== جَدْرِ ا فوجهُ مَورْه.
ومن أبرز العلماء الذين لقيهم لمجيدري بمصر العلامة الشريف مرتضى الزبيدي الحسيني صاحب المؤلفات الجليلة كشرح الإحياءِ وشرح القاموس، فكان من إخوته الناصحين، وكان يعرض عليه ما يكتب من شرحه على “القاموس”، قال في كتاب “العمران”: «…وذكر لي أن “القاموس” له شروح وأن المرتضى من أهل تلك الشروح وأنه كان يعطي لمحمذ لمجيدري ما كتب من شرحه على “القاموس” يصححه له، وربما خط على سطر أو سطرين من تلك الشروح ويسلم له المرتضى …».
وترجم المرتضى للمجيدري ضمن شيوخه في كتابه “المعجم المختص”، وراسله من مصر إلى شنقيط. وقد أشار إلى هذا تلميذ لمجيدري محمذ المامون بن محمذ الصوفي بقوله:
وما برحت مذ حازه الغرْبُ عنهم == رسائلهم تهدي له حسن الذكر
و ترجم عنه المرتضى الحافظ الــــرضــا == بمـا ينزل العصماء من قنة الـوعــر.
ومن أخبار لمجيدري خلال إقامته بمصر ما ذكره العلامة سيدي أحمد بن أسمه الديماني في كتابه “ذات ألواح ودسر” بقوله: «يقال إنه فسر الإجمار في حديث (لا تجمروا موتاكم) بالتأخر فكلفه السلطان بشاهد على ذلك في العربية فأنشده قول الشاعر:
فأجمرتنا إجمار كسرى جنوده == ومنيتنا حتى مللنا الأمانيا
فقال بعض الحاضرين لعل هذا البيت ليس للعرب وإنما أنشأته أنت الآن، فكلفه السلطان أن يريه هذا البيت في كتب العربية وخلى بينه وبين الخزانة العربية، فعمل التربيع حتى وجده بسرعة».
والتربيع فن من فنون الأسرار تُظهر به الأمور الخفية قال لمرابط محنض بابه بن امين في “المتوسط المبين”:
وذكر تربيع المكان فعيا == يوجد في كتب أهل الكيميا
وهو يظهر الذي قد جعلا == في جانب من المكان جهلا
وفيه تستعمل أسرار الحرو == ف وإلى الطالع فيه ينظر
وأهله يرونه علما مفيـ == دا وبإخلاص الدعا أنت اكتف
فإنه أدفع من هذي العلوم == للمختشى أجلب منها للمروم
ونفعه إن كان من ذي تقوى == قوي الايمان يكون أقوى.
وعلم التربيع الذي استخرج به الكتاب علمه إياه شيخه أشفغ الخطاط رضي الله عنه، وذلك أنه لما أدخل الخزنة خلد للنوم فرأى الشيخ وتعلمه منه. وكان قد سبق له أن لقيه رضي الله عنه في رؤيا، قبل رحلته إلى المشرق، فأخذ عنه. وتقديرا لذلك أهدى لمجيدري جملا محملا إلى ولده أحمد محمود بن أشفغ الخطاط رضي الله عنهما. وإلى هذا يشير العلامة ابن بونَ بقوله:
إلى ولد الخطاط أهدى بعيره== على أنه في النوم منه تعلمـا.
وفي الحجاز حظي لمجيدري أيضا بتقدير العلماء الذين لقيهم كـالإمام الحافظ فخر المالكية صالح الفلاني، قال فيه الشمس القاوقجي: «كاد أن يكون مجتهدا» وممن جزم ببلوغه رتبة الاجتهاد صاحب كتاب “الدين الخالص”…. وجعله صاحب “عون الودود على سنن أبي داوود” من المجددين على رأس المائة الثالثة عشرة، ، فقد أورد العلامة عبد الحي الكتاني في “فهرسته” ما نصه: «…ووجدت بهامش “الإتحاف” منقولا عن الشيخ صالح الفلاني أنه قال: ورد علينا من المغرب حافظان محمد لمجيدري… والسباعي يعني سيدي الجيلالي بن المختار أحدهما يبقى ما في حفظه ستة أشهر والآخر يبقى ما في حفظه عاما».
ويوضح لنا الكتاني أثناء ترجمته للجيلالي أنه قال: «ما ألْقَتْهُ، ولو مرة، أذني أو عيني في مخيلتي ارتسم نحو الستة أشهر في حفيظتي». ومقتضى هذا الكلام أن المقصود بمن يبقى ما سمعه في حافظته عاما منهما لمجيدري.
وكالعلامة أحمد جمل الليل المترجم له في كتاب “حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر” بــ: «السيد أحمد باعلوي جمل الليل المدني المنجود، الحبر المسكي الأرج، فحدث عن البحر ولا حرج، قرأ في المدينة المنورة وأخذ عن علمائها، وحضر دروس أعيانها وفضلائها، ومن أجلتهم عملاً وعلماً، وأكملهم جاهاً وقدراً ومعرفة وفهماً، الكبير الفاضل، والخطير الكامل، محمد بن عبد الله المغربي السجلماسي الفاسي، والعلامة الشيخ عبد الله الجوهري، والشهاب أحمد الدردير، وتصدر في المدينة المنورة لإفادة العلوم الشرعية، والفنون العقلية والنقلية، وهو من رجال “اللآليء الثمينة في أعيان شعراء المدينة”، لعمر بن عبد السلام المدرس الداغستاني….. »، فراسله من المدينة المنورة كما ذكر ابن الفلالي بقوله: «… وأخبار شيخنا محمذ بن حب اللَّ مشهورة من أرضنا إلى المغرب إلى إفريقية إلى مصر إلى مكة إلى المدينة، وإن تتبعت أثره لم تجد موضعا إلا وله فيه تلميذ أو أخ أو ناصح أو شيخ ظاهر أو باطن. ومن إخوانه الناصحين المرتضى الزبيدي الذي هو سبب ما نحن فيه، ومنهم أحمد جمل الليل أصلح الله منه كل هفوة وميل، وقد بعث له بورقة وهو بالمدينة وفي ذلك يقول تلميذه المامون:
حلاك أسير في الأفاق من مثل == وتحت أخمصك اليافوخ من زحل
سل المدينة والبطحاء أي فتى == يخبرك من فيهما من عالم وولي
هل كان يدعى كمال الدين بينهما == أو كان في المجد إلا غاية الأمل
هذي رسائلهم يسعى بها أبدا == من كان من حج بيت الله ذا قفل».
وما ذلك إلا لأن لمجيدري كان بحرا من بحور العلم، آية في الحفظ والفهم وجودة الخط. قال عنه ابن الفلالي في العمران: «وكذلك لم ير مثله في الفقه لا سيما “الشيخ خليل” وشروحه، وكذلك لم ير مثله في حسن الخط، وإلى اليوم وخطه لم يتغير مع قدم الزمن، وأعيى كل جيد خط أن يحاكيه، وكنت قادرا على محاكاة كل خط إلا خطه فأعياني، فإنه أعيا الناس حسنا ولباقة وضمنا وفضلا وصحة، وكذلك لم ير مثله في الحديث…».
وقال: «وكان لا يبارى في سرعة السير في السلوك فأخبرني والدي رضي الله عنه أنه يقطع في اليوم الواحد من السلوك ما لا يقطعه السالكون إلا في أسبوع، ويقطع في الأسبوع ما لا يقطعون إلا في شهر، ويقطع في الشهر ما لا يقطعون إلا في السنة».
ومعروف أن لمجيدري أخذ عن عبد الوهاب التازي عن عبد العزيز الدباغ، وكانت طريقة عبد الوهاب هذا أولا شاذلية ناصرية، وشيخه سيدي محمد بن زيان القندوسي عن شيخه سيدي مبارك بن عدي الغيلاني عن سيدي محمد بن ناصر الدرعي (رضي الله عنهم)، ثم بعد ذلك انتسب لطريقة الشيخ عبد العزيز الدباغ ويطلق عليها “الخضرية ” لأنه أخذها عن الخضر عليه السلام، وقد نظم العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي رحمه الله سلسلة أشياخ هذه الطريقة. وجاء في بعض الروايات أن لمجيدري بن حبللّ كان نقشبندي الطريقة ويعضد ذلك ما جرى بين العلامة محمد بن محمد سالم والشيخ ماء العينين الوارد في كتاب “النفحة الأحمدية” ونصه: «ولما التقى محمد مع شيخنا أدام الله عزه وتنحى عنهم الجميع ولم يبق حذاءهما إلا أحمد وكان لا يبعد من أبيه عادة، لأنه في آخر عمره الأكثر فيه لا يكلم إلا إياه، وتكلم محمد مع شيخنا أدام الله عزه آمين، وناداني وقال ائتني بـ”الكبريت الأحمر” وأتيته به وقرأ عليه شيئا منه وسمعنا محمد، وكان جهير الصوت، قال الحمد لله الحاجة قضيت، ونادى يا أحمد يعني ابنه ائتنا بالجمال وركبوا في الحين، وقال لنا شيخنا أدام الله عزه إن شيخه الكبير النقشبندي؛ لأنه عنده طريقة محمد المجيدري بن حبيب الله الملقب حبلل بتشديد الباء الموحدة واللام اليعقوبي وهي النقشبندية أخذها عن شيخه عبد الوهاب التازي، وصار الشيخ الكبير ياتي لمحمد ويراه آتيا له ويدخل فيه وينمحي، ووقعت له مرارا وخشي على نفسه أن يقول بالحلول أو بما يؤدي للكفر وفسر له شيخنا أدام الله عزه ذلك وسر به وفرح وعند ذلك قال الحمد لله».
وحسب ابن الفلالي فإن لمجيدري كان من الأوائل الذين أدخلوا الطرق الصوفية إلى هذا القطر:
لَمجيدرِ لحْــﮕْ الـﮜْـبْلَ == مَ ظَاهرينْ فيه لَوْرادْ
يـــَــكــُــــونْ وَرْدَ الشــــَـيـــخْ أَعـْــلَ == َحدْ أزمانُ فَزَوادْ
وكان لمجيدري على درجة فائقة من الذكاء وسرعة البديهة، فقد ذكر ابن الفلالي عنه في هذا الصدد ما نصه: «..فمن فهم شيخنا محمذ لمجيدري بن حبلل وسيلان ذهنه أن المرتضى أو أحد علماء تلك الأمصار الأجلاء سأل شيخنا محمذ عن مسألة فقال: لا أدري أولا، ثم قال له: بعجلة معناها كذا و كذا فقال هذا العالم: (صفير جحفلة) فتأملها شيخنا فقال له: لعلك أردت أن هذا كشف، ففهم فهما آخر أعجب من الأول؛ لأن المكاء هو بالمد والهمز الصفير قال تعالى: ﴿وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية﴾
والشفة هي الجحفلة، وإذا نزع الهمز من المكاء صار الجمع مكاشفة مصدر، كما أخبرني بهذه الحكاية شيخي الذي هو والدي رضي الله عن الجميع».
وقد وقع له في رسالته التي بعث بها من الحجاز مع رجل إلى والدته وسلمه معها سلهاما وزربية أسلوب عجيب ومنزع غريب منبئ عن قريحة وقادة وذكاء عزيز النظير. وهذا نصها حسب ما وقفت عليه بخط العلامة محمد يحيى بن ابوه:
«من الملتمس في طرسه صالح الدعاء إلى سميه وابن خالته المجدد سلام بزيادة لام ماء إلى لامه، وإحدى خبر كأن من قوله: ترديت … إلى آخر كلامه. الأول لك والثانية لخالتك أم المومنين وحداد المرام، رهمسة مغزى الكلام، والسلام». فعرضها الرجل المذكور في طريقه على عدد من الفضلاء فلم يفهمها منهم أحد، حتى وصل إلى الحي الذي به أهل لمجيدري وسلمها لهم فأشكلت عليهم أيضا، فقال لهم مولود بن أحمد الجواد: هذه الرسالة لن يفهما إلا من كان له انتساب إلى فاطمة بنت الفاظل بن باركللَّ، فلم يزل أمرها مشكلا حتى قدم مولود بن أشفغ اعمر اليدامي الذي هو من أبناء فاطمة بنت الفاظل فعرضوها عليه فبقي يتأملها يوما أو أكثر حتى فتح عليه بفهمها فقال لحاملها: أين السلهام الذي بعث به ابن حبللَّ مع الزربية؟ فخجل الرجل خجلا شديدا، وأقر بالسلهام فتركوه له، فتحير الناس من أسلوب لمجيدري، ومن فراسة مولود بن أحمد الجواد، ومن فهم مولود بن أشفغ أعمر.
ولما قال بعض الحاضرين لمولود بن أشفغ أعمر: كيف علمت ذلك؟ رد عليهم بأن “لام ماء” هي الهاء لأنه يجمع على مياه، وإن زيد الهاء إلى لام سلام صار “سلهاما”، وأن “أحد خبر كأن” يشير به إلى قول غيلان:
ترديت من أزهار نور كأنها == زرابـــي وانهـــلت علــيك الـــرواعـــد
وكان لمجيدري مع كل هذا شاعرا فصيحا مجيدا، من شعره قطعته التي يتوسل فيها بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
نعم فأجب عبدا دعا متوسلا == بجاه ابن عبد الله أفضل مرسل
يؤمل أن يعطى مناه وكيف لا؟! == وهو بطه المصطفى ذو توسل
إليك من أقصى السوس جاء وظهره == بما قد جناه مثقل أي مثقل
سلا بك والسلوان غاية سؤله == عن اهل وإخوان وجيران منزل
تفضل عليه بالقبول ولاقه == بـ”أهلا وسهلا” أنت أهل التفضل
جنى فأتى يمشي إليك مكبلا== فأنت الذي ترجى لفك المكبل
ولما جاء إلى القبة الخضراء قال:
يا سيد الخلق قد أنزلت أحمالي == إليك يا سيدي أن كنت أحمى لي
وجئت من أرض ســوس خائفا وجــلا == حـتى دخـلت حــمى شباكــــك العـــالي
ومن جيد شعره:
يا من يَرى ولا يُرى == عني الكروب نفس
واجعل لأمر عسرا == يسرا بلا تشكس
لقد نفى عني الكرى == شوقي لأهل تيرس
لهفي عليهم نبلا== مهذبين فضلا
إن قيس معبد على == غريدهم كالأخرس
أو قيس سحبان على == بليغهم لم ينبس
حب المهيمن جرى == في الدم منهم وسرى
وامتثلوا ما أمرا == به أجل قبس
واجتنبوا ما حظرا== من خبث ورجس
منزلهم رحب الذرى== وكومهم شم الذرى
فاقوا جميع من قرا == وخط بالأباخس
هم كرام ذا الورى== هم ثمال البائس.
ترك لمجيدري مؤلفات عديدة منها: “مبين الصراط المستقيم في أصول الدين”، “السراج الوهاج في تبين الوهاج”، “الأسئلة في التوحيد”، “الجواهر المكنونة في الفرائض”، “نظم في القرآن”، كما اختصر كتاب “المحلى” لابن حزم بكتاب سماه “المعلى في مختصر المحلى”، فضلا عن مؤلفات في التصوف…إلخ.
توفي لمجيدري رضي الله عنه عام 1204هـ عن عمر ناهز الأربعين. ودفن بالدار التي كان بناها في “اﮔـجوجت” إلى جنب ابنه الوحيد الذي توفي في صباه لتطوى بذلك صفحة مشرقة – من تاريخ بلاد شنقيط – زينتها مناقب رجل أبلغ ما قيل فيه قول الشيخ محمد المامي:
وللمجيدر في الغبراء مرتبة == سارت بها في الأقاليم الركابين.
يعقوب “اليحيوي” بن محمد موسى