ترجمة شيخي ذكرها العلامة اللغوي المفسر الدكتور/ عبدالعزيز بن علي الحربي – حفظه الله تعالى – في كتابه الفذ ( مفاتح المقصورة شرح مقصورة ابن دُريد الأزدي ) فقال :
( ترجمة الشيخ أحمد/
الشيخ العلامة الّلغوي الفقيه: أحمد بن محمد حامد محمد الحسني الشنقيطي.
أقوى علومه: الّلغة, فالنحو, فالفقه, فالبلاغة, والأصول، والنسب، والسيرة .. ويحفظ في ذلك متونًا ودواوين.
وحِفظه لأشعار العرب، وأنظام شيوخه وشيوخهم وأقرانه ومعاصريه أمرٌ عَجَبٌ .. قال لي: إنه حفظ شعر الشعراء الستة الجاهليين قبل البلوغ؛ سماعًا من قراءة الطلاب على أبيه الذي أخذ عنه كل علومه, وأحَبّه أَبًا، وشيخًا عالمًا، ومربِّيًا .. إلى أن قال:
كان عالمًا عاملاً كثيرَ الذكر, والتلاوة, والتألُّه, والصِّيام .. وكان زاهدًا في الدنيا, لا يستعمل من وسائلها الحديثة شيئًا؛ إلا ما لا بدّ منه؛ فلا يتكلم في هاتف, ولا يستمع إلى مذياع، ولا يرضى بدخوله في منزله, ولا يشرب الشاي والبنّ .. ومن غريب ما أخبرني به: أنه منذ أربعة عشر عامًا لم يشرب ماءً، ولا شيئًا فيه ماءٌ, ويكتفي بشرب الّلبن الحليب, ولا يكاد يطعم شيئًا غيرَه معه؛ إلاّ إذا أُلْجِئ, ويغنيه ذلك عن الطعام والشراب .. قال لي ذلك عام 1415هـ بالمسجد الحرام، وأنا أقرأ عليه بقية ديوان الشعراء الستة الجاهليين.
ولم يكُ يقبل أن يذهب إلى بيت أحدٍ؛ إلاّ إذا كان من خاصّة خاصته؛ ولكنني أخذته بسيف الحياء، وقرأت عليه في أيّام ما لم أقرأه في شهورٍ؛ في المنزل، وفي الطريق، وفي السيارة، وفي المسجد.
كان الشيخ أحمد متقلّلاً من الدّنيا لا يملك شيئًا؛ إلا مِسْبحتَهُ، وثوبَه على جسده النحيل المائل للقِصر .. يبيت الليالي ذوات العدد وليس معه – وهو في المدينة – من المال شيءٌ .. وكان في الشهور الأولى من مقدَمه في ضيافة بعض الكرام من قومه, وكان إذا انقلبنا إلى منزله بحيِّ الطَّرفة يقدم لي جَفنةً غرَّاء من الحليب، ويقول: اشرب، ولا تترك فيها شيئًا؛ كرمًا منه، وإيناسًا، وتظَرُّفًا .. وفيه من الحياء الزائد لمن يلقاه أوّل مرّة ويقرأ عليه؛ ما يزيد عن الحدّ.
وقال لي في أول درس قرأته عليه: إني قَدِمْتُ إلى هنا لملاقاة عزرائيل(1) – ملك الموت – .. ولم يكن يعرف عن مولده بالدقَّة, ومبلغ علمه عن عمره سنة 1415هـ أنه بين السبعين والثمانين .. ووجدتُ في ترجمة أحد تلاميذه أنه أخبره بأنّ مولدَه كان عام 1332هـ تقريبًا؛ فلعلّ ذلك تحقق للشيخ مؤخرًّا.
وكان حريصًا على المكْث بالروضة المباركة بمسجد النبي – عليه الصلاة والسلام – .. ويصلي القيام في رمضان في منزله جالسًا، ودخلت ليلةً من ليالي رمضان وهو يصلي، ويقرأ سورة الحديد، فلما بلغ قوله سبحانه: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: ١٦] غلبه النشيج، واعتراه رجفة, أخذ بي مثلُها، ولهذا الموقف أثرٌ في نفسي إلى اليوم .. وللصدق أثَرٌ على مَنْ حوله يسري إليه من طرف خفي.. وكان يوصي خُلَّص تلامذته عقيب انتهائهم من دروسهم واستعدادهم للقيام؛ يوصيهم بأداء الوظيفة, والوظيفة عنده هي: الصلاة على النبي ، ولمّا كان بالمدينة المنورة اعتراه أسقام؛ لأنه لم يألف إلا حياةَ البدو، والمَحَاضر؛ حيث الهواء الطلق، والطلبة الجادُّون الذين يقرءون المتون على الطريقة المرضية التي يرضاها لهم .. وكان كثيرًا ما يشكو إليَّ ما يلقاه مِنْ عَنَتٍ في إقراءِ الطلاب الذين يقرءون عليه في منزله بالمدينة بطريقة فوضوية؛ يأتون إليه بكتب كبار لا يقيمون ألفاظها، ولم يتقنوا الضروريّ من اللغة والفقه، وفاتتهم مراحل كبيرة، ولم يحفظوا القرآن , وبعضهم لا يحسن قراءته .. وكنت أجدُ عنده في بعض الأحايين من يقرأ عليه كُتبا من كتب مقرّرات الدراسة , وقلت لواحد منهم – بعد أن ختم درسه في >تيسير العلاّم< للبسّام -: هذا كتاب لا يحتاج إلى شيخ , وليس من الكتب التي اعتنى بها الشيخ؛ حتى تجد لديه فوائدَ زائدةً، وتحريراتٍ نادرةً, وليس كتابًا من كتب اللُّغة حتى تقرأه عليه – وهو فارس هذا الميدان بلا شك -، وأنت فوق هذا تأخذ وقتنا ووقت الشيخ فيما لا يرضاه, ولكن الشيخ شديد الحياء لا يردّ أحدًا، ولا يمنعه من القراءة في أيّ ساعة من ليلٍ أو نهارٍ، ولو جاءه أحدٌ قبل الفجر، وطرق الباب لفتح له الباب، وأجلسه، وقال له: (قُلْ) وهي عبارةٌ يأمر بها الشيخُ الطالبَ للابتداء بدرسه، وبمواصلته أيضًا؛ فكان بيته كمشعرِ مِنىً؛ هي مَناخٌ لمن سبق.
وفي أول طلبي عليه كنت أتحيّن فرص خلوّه من الطلاب , فأخِفُّ إليه بعد الظهر حين الانصراف من الدراسة بالمرحلة الثانوية بالجامعة, فألقاه في المسجد النبوي, فأقرأ عليه , وأكتب ما أشاء مما يمليه, ثم أنقلب إلى الجامعة مسرورًا في عجلة؛ لأدرك مطعم الجامعة فلا أجد إلا طعامًا باردًا – شيئًا من الأرز، واللحم، أو الدجاج، مع باذنجان، أو رجلة – وأجد لذّة العلم قد أطفأت لذة الطعام بعد الجوع، وأطفأت كلَّ لذة .. ولم تزل جوعة العلم تُشبع ولا تَشْبع.. حدثني الشيخ الوالد – متّعهُ اللهُ بالعافية في الدارين – قال: كنا أيام طلبنا للعلم في مدرسة الشيخ القرعاوي بالجنوب لا نجد من الطعام إلا ما نسدُّ به الرَّمَق, وكانوا يهبُون لنا كلَّ يوم كِسْرةً صغيرة من السّمسم نشرب عليها الماء بقية اليوم، وكنّا نجد العلم أحلى وألذّ من تلك الكسرة, ومِنْ كُلّ شيءٍ.
وقد قال الشافعي :
سهري لتنقيحِ العلوم ألذّ لي
من وصْل غانية وطيبِ عناقِ
وأوّل ما حفظته منه في المجلس الأول أبياتٌ في لفظ الجلالة، وعددُ المرات التي ذُكر فيها في القرآن؛ قولَ الناظم:
اسمُ الجلالـة في القرآن ويحَكَ لا
تجهله فالجهل بئس الوصف للرَّجلِ
فَعَدُّه إن تُـردْ من غيـر بسملة
شِـينٌ وشـينٌ وسـينٌ للثلاث تلي
هذا هو الحق يا بن الأكرمين فلا
يغررك ما جاء في الأشمونِ والجمَلِ
والشين في حساب الجمّل لدى المغاربة بألف، والسين بتسعين. ولدى المشارقة الشين بثلاث مئة، والسين بستين.
وقد قلَّبت هذه الرموز على كل وجه فلم أجدها توافق الصّواب ولا تقاربه, وكأن الشيخ حفظها، ولم يناقش الحساب فيها .. والحساب الدقيق للفظ الجلالة في القرآن (2697) على ما هو مفصل في >المعجم المفهرس< لمحمد فؤاد عبد الباقي.
وممّا أتحف به في ذلك المجلس الأول قول الناظم:
كل فتى شبَّ بلا إعرابِ
فهـو عنـدي مَثَـلُ الغـرابِ
وإن رأيته لخودٍ عاشقا
فقل لها: دعي الغراب الناعقا
وقول الآخر:
وفي ترادف العلوم المنعُ ما
إن توأمان استبقا لم يخرجا
وأكثر ما كان يقرأ عليه الطلبة في النحو، والغريب، والفقه؛ يقرءون فيه مختصر خليل .. ولم يكن له اجتهاد إلا في دائرة المذهب المالكي, فقد يأخذ بما ليس بمشهور في المذهب , ولا أعرف له خروجًا عن المذهب، أو ترجيح قولٍ خارِجَهُ؛ في جميع ما حضرته من دروس الفقه عنده , وفيما سألته من مسائل – وهي كثيرة – .. وما كان في أقوال مذهبه من ترجيح لوالده أخذ به , ولا يكاد يخرج عن آرائه، وترجيحاته .. ووالده شيخه الأول، وله عليه عظيم الأثر .. ومن أحسن ما أجابني به في مسائل الفقه – ومعظم الإجابات تكون نظمًا محفوظًا؛ فهم لا يكادون يستسيغون غير النظم – مسألة صلاة المسافر خلف المقيم في الرباعيّة , فنثر الجواب، ثم أنشد نظْمًا:
إن اقتدى مسافر بحضري
أتمَّ حتمًا في المقام الأشهرِ
ولابن شعبان إذا ما تمّما
مـع الإمـام ركعتين سَلَّما
والانتظارُ للسَّـلام يجبُ
من بعد ركعتين قال أشهبُ
ومعنى الأبيات واضح .. وأعجبني أن يكون في أقوال المذاهب من يقول بذلك؛ لأنه لا يُذهِب هيبة المخالفة في مشهور الأقوال لدى الناس إلا ذِكْر من قال به ولو كان واحدًا؛ لا سيما إنْ كان من أتباع المذاهب الأربعة، وقد يكون ذلك عند بعض المتعصِّبين أقوى من ذِكْرِ تابعيٍّ، أو صاحب .. والكلام في هذه المسألة معروف، ومن غريب ما فيها: إلزام المقتدي بالإتمام إذا لم يدرك إلا ركعتين، أو ركعة، أو بعض ركعة؛ بعلّة الاقتداء الذي لا وجود له هنا إلا في الذهن .. وهناك أكثر من عشر صور تجب فيها، أو تجوز مخالفة الإمام؛ منها: صلاة المقيم خلف المسافر, وصلاة من يصلي المغرب خلف من يصلي العشاء. ومنها: إذا استخلف الإمام مسبوقًا فاتته ركعة أو أكثر، ومَعَهُ مَنْ أدرك الصلاة من أولها، وضابط تحقُّق المخالفة الممنوعة: أن تكون المخالفة في الانتقال إلى الأركان التي يجب أداؤها على المقتدي، فإذا انتهت صلاته فقد انتهى حكم الاقتداء.
وآراؤه النحوية يتبع فيها في الغالب آراء ابن مالك وابن بونة .. وآراؤه اللغوية يحمل فيها عِلم غيره, وله عناية بالقاموس, ويحفظ مقطّعات لا تُحصى كثرةً في مسائل اللغة؛ لوالدِهِ, وللحضرمي, وعبد الودود, والحسن بن زين, وغيرهم. ولنفسه نظم دون ذلك.
وطبيعة المدرسة الموريتانية (مدرسة المَحَاضر) تغليب جانب الحفظ على جانب الفهم وتربية الحافظة، والعناية بها على حساب مَلَكة الفَهْم؛ فينشأ الطالب محصور الفكر، محدود التخيُّل، ينغلق عليه الجواب في المسألة إذا لم يسعفه خاطره بمحفوظٍ فيها, ويصعب عليه الكلام فيما لا يحفظ فيه؛ وهذا من أعظم الأخطاء التي تُرتَكب في تلقين التلاميذ وتضييق أذهانهم .. وإنّما تنمو المَلَكات وتَقْوَى بالتربية، والمعالجة، والمُمارسة، والترويض، وأنفع شيء للحفظ هو الحفظ نفسه؛ لا الزنجبيل, ولا الزبيب, ولا الكندُر, ولا البلاذِر .. وأنفع شيء للفهم هو التفهّم، وترويض الذهن على فهم المسائل العسرة بالترقّي , وكُلٌّ منهما – أعني: الحفظَ، والفَهْمَ – ضروري لطالب العلم؛ فإنْ كان لا بدّ من أحدهما فالفهْمُ أَوْلى؛ ومَنْ فهم فقد حفظ، والناس في ذلك على مراتب, وفيهم من تقوده إحدى مَلَكَاتِهِ، ولا تخضع له، ولا لترويضٍ؛ لأنها أقوى من إرادته.
مما كان يميز الشيخ : الحفظُ المفرطُ – قال بعض أهل بلده: إنه عديم النظير في ذلك -, والتبحّر في علوم اللغة, والتواضع, والحلم, والزهد في الدنيا, وسلامة القلب, وعفة اللسان, ولين الجانب, وخفض الجناح, والإخبات, والورع.
وقد شهد له مَن لَقِيَه من أهل العلم بسعة العلم , وعجبوا من حفظه، وزهده؛ كالشيخ عبد الفتاح أبي غدة :, والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي, والشيخ جبران بن أحمد صالح، وغيرهم.
وله ابنان صالحان؛ أكبرهما محمد, له عناية باللغة، ويحفظ مثلث ابن مالك, والمختار .. وهو أشبه بأبيه.
ومن آراء الشيخ: جواز المرور بين يدي المصلِّي إذا كان يصلي في مخرج المصلين وطريقهم, ويقول: إثم ذلك عليه .. وصافح مرّة رجلاً وهو – أي الرجل – قائم يصلي, فقلت له، فقال: يجوز, والمذهب المالكي واسع في هذا الباب .
ويرى فضل المدينة على مكة؛ تبعًا للإمام مالك :.
قرأت عليه ألفية بن مالك ولم أتمّها, ومثلثَ ابن مالك كاملاً, ومعلّقةَ طرفة, والأعشى, ثم قرأت ديوان الشعراء الستة بمكة, وقرأت عليه قبل ذلك لاميّة الشَّنفرَى, وقصيدة كعب بن زهير, وبعضَ ديوان ذي الرُّمَّة, ومقصورةَ ابن دريد, ومقصورة أخرى لأحد علمائهم, مطلعها:
أشاقك بعد تولي الصبا
حُمول بكرْن بأدْم الظِّبا
وقرأت عليه شيئا من عمود النسب, والسلم المُنَورَق كاملاً, وكذلك الجوهر المكنون في البلاغة, وقرأت عليه تلخيص القزويني من أوله إلى آخره قراءةً سريعةً؛ أسألُ فيها عمّا أشكل، وقرأت عليه بعض >مراقي السعود< في أصول الفقه، وحضرت دروسًا مفرَّقة لكثير من تلامذته في >مختصر خليل<. جاءني نبأ وفاته – عليه رحمة الله – وأنا أكتب ترجمته، وأصحح كتابي >مفاتح المقصورة<. وأُخْبِرْتُ أنّ وفاته كانت يوم الثلاثاء الخامس عشر من ربيع الأول من عامنا هذا (1428هـ) وعاش مدة عمره ممتّعًا بجميع حواسه؛ رحمه الله رحمة واسعة , وأحسن ذِكره في الصالحين, ورفع درجته في عِلّيّين.آمين – الدعاء –