جاء الوحي القرآني منزّلا من الله سبحانه وتعالى على نبيه الأعظم ليخاطب العقل الواعي المدرك القادر على تمييز الخطأ من الصواب والحقيقة من الوهم ، وهذا هو شرط التكليف ومناط المسؤولية عن الفعل والقرار ،، وقد منح الله للبشر عقولا متطورة قبل أن يدعوهم للإيمان به وبرسالاته المنزلة التي احتوت تذكيرا للعقل بآيات الله في الكون والوجود المحيط بالإنسان كدليل يقنعه بصدق الخطاب الإلهي ، يقول تعالى ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ). وكثيرة هي الآيات القرآنية التي تقدم البراهين العقلية على وجود الله وعلى قدرته في تدبير هذا الكون وإحكامه ونظامه المتقن ، قال تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) .
ثم يخبرنا القرآن الكريم في أكثر من موضع بأن الله سبحانه وتعالى أمر الناس بالتدبر في آياته وإعمال العقل فيها ليصلوا إلى الحقيقة ، وأنه لم يجبرهم على الايمان به رغم قدرته المطلقة على ذلك ، فقال ( لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) ، وفي آية أخرى (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ). وعندما ينتفي الإجبار على الايمان المتأتي من مشيئة الله سبحانه وتعالى فأحرى أن ينتفي الإجبار على الإيمان المتأتي من مشية البشر ، وينتفي معه كل سلطان على العقل، وتتحرر الإرادة من هيمنة المخلوق إلى فضاء الحرية الذي منحه الله لهذا الإنسان ورتب عليه المسؤولية عن كل أعماله ، قال تعالى ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) وقال أيضا ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ).
ثم تتوالى الآيات القرآنية بأسلوب بيّن وخطاب واضح صريح لتخبر الناس أن الإيمان بالدين قناعة شخصية وقرار حر يتخذه الانسان من غير اجبار ولا إكراه ، وهل هناك أوضح من هذا الخطاب الإلهي (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْۖ فَمَن شاءَ فلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْۚ ) ، وقوله (إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ لِلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ).
والأمر بعدم إكراه الناس على المعتقد، يأتي غالبا موجها للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه قدوة المسلمين وأسوتهم الحسنة (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، ومنه ما ورد في الآية السابقة حين قال جل شأنه مخاطبا نبيه الكريم (وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) ، وأيضا قوله (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ) وقوله (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ). فالقرآن هنا يحدد مهمة الرسول ويحصرها في التبليغ فقط ، أما الإكراه فليس واردا في الدين على الإطلاق، ولهذا قال الله تعالى حاسما هذه المسألة ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )، ونلاحظ أن كلمة (إكراه) جاءت نكرة ، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم ، بل هي من أعم صيغ العموم ، وبذلك لا يجوز أن يكره الناس – في أي زمان ومكان ولأي سبب – على أمر متعلق بالعقيدة والإيمان والقناعة بالدين.
يقول المفكر الإسلامي علي الشرفاء في تعليقه على هذه المسـألة في كتاب “ومضات على الطريق” “إن الله أسقط حجة الذين يجعلون من أنفسهم أوصياء على الناس في عقائدهم ، أو إكراههم باتباع دين الإسلام أو العقيدة التي يؤمنون بها، بالقوة والترهيب والقتل”.. وبالفعل تؤكد الأبحاث والدراسات من أهم أسباب انتشار الإرهاب المتدثر بدثار الإسلام هو تعطيل آيات حرية الاعتقاد على الرغم من أنها آيات آمرة صريحة ومحكمة ، تعطي للإسلام وجهه الإنساني الحضاري الذي يتناغم مع الفطرة والعدل والرحمة التي بعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لنشرها في الأرض (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
حي معاوية حسن