هل سقطت الصبية فى البئر الوسخ السحيق؟!…فقد كنت أنظر إليها دائما بإشفاق، و هو يمسك بيدها، بلطف لا يخلو من الإهمال،و لكنها فى النهاية بسبب عدم الحزم، سقطت فى البئر الوسخ السحيق،و مهما تكن إمكانية إنقاذ الضحية،فإن ذلك يتطلب جهودا استثنائية مرهقة،قد تتطلب خبرة حقيقية فى عمليات الإنقاذ المعقد،و خصوصا ممن بدأوا يدركون، سمعا أو كلاما،لكن لم يصلوا لمرحلة النضج، عمريا و بدنيا و عقليا،مما يضاعف مصاعب الإنقاذ.
تلك هي حقيقة مأساة موريتانيا ربما، فى الوقت الراهن!.
موريتانيا رغم ثرواتها الظاهرة و الباطنة تعانى من سوء تسيير مزمن،و إصرار بعض أبناءها على التهام كل ما يواجههم،و لا أعرف صراحة فى قرارة نفسي ،لماذا كل هذا المستوى المرضي المقرف المقزز،من الأنانية و حب التملك ،و على حساب أكثرية مسحوقة مغلوبة على أمرها، و لحد يثير الإشفاق و الاستغراب الأسطوري الطويل؟!.
إنما تعانى منه موريتانيا، من سوء الحكامة و طغيان الحكم العسكري،رغم المسحة الديمقراطية الصورية،ولد لديها أزمة مركبة مستحكمة،ظلت تنخر كيانها الهزيل، منذو نعمومة أظافرها و إلى اليوم.
فموريتانيا منذو 1975، سقطت فى بئر حرب الصحراء الغربية،و هي بعد ابنة 15 ربيعا،لم تبلغ الحلم و سن الرشد و التكليف،ثم جاء العسكر المتبرمون من الحرب و وعكتها،و قرروا الخروج منها،دون مقدمات متئدة مدروسة،و اكتفينا من الغنيمة، كما يقال، بالإياب سالمين نسبيا،بعد خسائر معتبرة فى الأرواح و مقدرات الدولة الحديثة الاستقلال.
و منذو 10 يوليو تموز 1978 ظلت و إلى اليوم أسيرة لتسيير و توجيه قوم، لم يتخصصوا فى السياسة، و لا هي ميدانهم،و لم يدخلوا ساحتها مطلوبين البتة،بل فرضوا أنفسهم،عبر سلسلة من الانقلابات و الصراعات الشديدة و المريرة،و فى هذا الجو، قتل الكثيرون و عذب الكثيرون و سجن الكثيرون.
قد بدأوا بمؤسس الدولة،الراحل،المختار ولد داداه،فسجنوه فى ولاته(الحوض الشرقي) قرابة سنة،ثم سجن ولد ولاتى و خرج بعد سنوات،و بعد تضييق و وعك شديد و توفي ولد بوسيف فى ظروف غامضة،بعد أن حكم أقل من شهرين،و استتب الحكم سنوات لولد هيداله،و جاءت محاولة مارس 1981 الدموية الفاشلة،و صفى ولد هيداله انياك و كادير و أحمد سالم ولد سيد،مدعيا فى مذكراته بأن الأمر كان بتوجيه من العلماء،و بعد ذلك سجن ولد هيداله،عدة سنوات،بعد أن انقلب عليه ولد الطايع،الذى تعرض هو الآخر لعدة محاولات انقلابية فاشلة ،بدءا بانقلاب 87 ثم 90،و كانت بتدبير من بعض ضباط اتكارير،و كلها فاشلة، لكنها كانت مكلفة جدا، لنسيج الوحدة الوطنية،و مكلفة فى الأرواح،بسبب ردود فعل نظام معاوية على شبكة الانقلابيين اتكارير و الفلان،و من اتهمهم بمناصرة ذينك الانقلابين العرقين الفاشلين،و لاحقا سنة 2003،حلت محاولة انقلابية أخرى،دموية و فاشلة هي الأخرى،و رغم ذلك أمضى ولد الطايع قرابة 21 سنة فى الحكم،من يوم 12/12/1984 إلى يوم الأربعاء 3/8/2005،و حكم ذلك الفريق عزيز و غزوانى و اعل ولد محمد فال،رحمه الله،و لم يكن الرئيس اعل و الرئيس سيد،رحمهم الله، سوى واجهة للثنائي الانقلابي الصلب،عزيز و غزوانى،اللذان اختلفا لاحقا بشدة،بعد أشهر قليلة من تولى غزوانى للسلطة،1/8/2019،و بعد عدة أشهر من التجاذب الحاد و الأخذ و الرد،بدعوى محاكمة العشرية،أدخل ولد غزوانى صاحبه لأربعين سنة،عزيز، السجن فى نواكشوط،يوم 23/6/2021 و إلى وقت كتابة هذه السطور.
و لا شك أن الكثير من الضباط و كذا بعض المدنيين، الذين تلوا مهام عمومية،و خصوصا منذو انقلاب 78،قد استغلوا النفوذ و حاز بعضهم ثروات طائلة، فى ظل غياب رقيب فعال،و ظلت البلاد تئن من الضياع المتنوع،على إثر أنظمة العسكر المتعاقبة،منذو 1978 و إلى اليوم،و إذا احتسبنا لهم الحفاظ على الحوزة الترابية و دولة تمتع بالاستقرار،و لو كان نسبيا و مهددا بامتياز، من حين لآخر،فقد فشل هؤلاء الحكام العسكر و حكوماتهم الكثيرة المتنوعة فى تحقيق التنمية و الرفاه للشعب الموريتاني،رغم كثرة ثرواته و قلة عدده،و اكتفى أغلب من أتيح لهم النفوذ بالنهب الواسع و الفشل الواسع فى تحقيق مقتضيات المسؤوليات الموكلة إليهم،فإلى متى؟!.
و بغض النظر عن الطريقة التى دخل بها ولد عبد العزيز السجن،سواءً ادعى البعض استحقاقه لذلك،أم الدفع به فى سياق تصفية حسابات ضيقة مكشوفة،فإن دور الإعلام المستقل،و منذو سنوات،و الغاضب غالبا من طريقة تسييره للشأن العام،و خصوصا المال العمومي،كان واضحا فى الزج به فى المعتقل،و كذلك سيكون مصير ولد غزوانى ربما،و بتهمة الخيانة العظمى للدولة،عبر جرد آثاره السلبية فى تسيير الشأن العام،منذو 3 أغسطس 2005 و إلى اليوم،و خصوصا منذو أمس الأربعاء،14/7/2021،عندما أصدرت حكومته مشروع قانون يسعى لتحصين الرئيس شخصيا، من أقلام و أصوات المعترضين على فضائحه المحتملة و تصرفاته المختلفة،المثيرة بحق للتساؤل و الرفض المطلق،حيث يمكن أن يدخل مثل هذا مشروع القانون المثير للجدل المشروع،فى سياق تآمر الرئيس غزوانى و حكومته،صراحة أو ضمنيا،على الدستور و المكتسبات الدستورية،خصوصا فى باب حرية التعبير و حرية الصحافة.
و إن رفضنا بحزم تجاوز البعض لكل الحدود الحمراء ،مثل فوكالات “آلكس” المحتجز، و مناصرة إبراهيم ولد بلال له(هيئة الساحل)،و لو ضمنيا،فى تحريضه على اللحمة المجتمعية الحساسة،إلا أن محاولة حماية تصرفات الرئيس عبر مشاريع قرارات سيزيفية،لا معنى له سياسيا و لا ديمقراطيا و لا دينيا!.
و فى سياق حق المظلوم التنفس،يقول القرطبي،جاز له السب،عند قوله جل شأنه:”لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم”.
و عندما لا يحكم الحاكم المسلم بشرع الله، يكون ظالما و بامتياز و عمق،قال الله تعالى”ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون”،و عندما يستغل السلطان النفوذ فى غير وجه حق و عدل و توازن، يكون ظالما،و ربما يستحق السب و الشتم عن جدارة،و عندما يبتعد الرئيس عن “تعهداته” و يواصل مسار الفشل الواسع المثير غير المبرر،و يدعم منحى التضييق على الحريات،تحت يافطة الدفاع عن نفسه،و فى جو من التهديد بالسجن سنوات و التغريم بالملايين،فكيف نسميه أو نصفه،ديمقراطيا أم دكتاتورا…؟!.
و لعل حالة التبرم المتبادل، بين الرعية و سائق القطيع،تفرض المزيد من الحذر و ضرورة التعقل،حتى لا تذهب موريتانيا ضحية بعض أوجه فشل نظام ولد غزوانى و إصرار بعض المواطنين و المدونين و الإعلاميين أو السياسيين على أخذ كامل حريتهم،مهما كان ضيق باع الحاكم المتغلب.
فالاستقرار النسبي ليس سوى حصيلة تعامل،مرهق أحيانا،مع طريقة شد “شعرة معاوية”،حتى لا تنقطع من جانب،و لو كان النظام القائم قد قرر التصعيد فى باب الحريات،فلنتبه، فهذه حقبة تأزم عابر و تشنج و عقد ستنفجر و تتفت،و تبقى الحرية واقفة،أصلها ثابت و فرعها فى السماء،و لن يكسب غزوانى ربما، غير التأزيم و الانشغال بالتصعيد ضد البعض،و قد قيل قدما، لو دامت لغيرك ما وصلت إليك،و لنحافظ على وطننا بعيدا عن الانقلابات و الفوضى،فهو وطننا جميعا،و ليس لفريق دون آخر.
و قد يفكر يوما أحد أعداء الحرية، فى سن قانون منع شروق الشمس،لكن هذا القانون الأخرق المثير للسخرية،سيظل بلا معنى،بينما سيظل،شروق الشمس،بإذن الله،منة من الله و رمزا للوضوح و الانبلاج و الحرية.