الجرائم شؤم على الأرض وأهلها، فهي سبب للهلاك العام الذي لا ينجو منه إلا من حاربها وأنكرها، وهي وبال على أصحابها في الآخرة إن لم يتوبوا منها ويصلحوا ما أفسدوا، وللجرائم أسباب تؤدي إليها، فيجب اجتنابها، وإذا وقعت فلها علاج يزيلها ويمنع ضررها، وقد أخفقت كل المبادئ والأنظمة في علاج الجرائم أو حتى في التخفيف من ضررها على المجتمعات، ولم ينجح في علاجها وسد أبوابها إلا الإسلام الذي جاء ببيان خطورتها والتحذير منها، وإغلاق كل الطرق المفضية إليها.
الإجرام معناه وخطورته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أكثر في كتابه من لوم المجرمين، ومن وصفهم بأنواع النعوت المؤلمة المخوفة من مصيرهم ومآلهم؛ وذلك للتنبيه على خطر الإجرام وضرره.
فحري بنا أن نبحث في ظاهرة الإجرام، وأن نبحث في مظاهر هذا الإجرام ووسائله وأسبابه وعلاجه كذلك.
معنى الإجرام
الإجرام: مصدر أجرم الإنسان بمعنى: اقترف جريمة، والجريمة هي في الأصل من الجرم الذي هو الجرح، فكأن الإنسان جرح جرحاً لا يستطيع علاجه، وذلك أن سكان هذه الأرض بمثابة قوم يركبون سفينة في عمق البحر، فالذين يجرمون يشقون هذه السفينة لتغرق بأهلها ومن فيها، فما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها، فإنه سبحانه وتعالى لو كشف الحجاب لحظة واحدة لأحرقت سبحات وجهه السماوات والأرض وما فيهن، ما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها!!
وجوب الأخذ على يد المجرم
إن الذين يعصون الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض يشقون فيها شقاً فيتسع هذا الشقُّ، فيشق علاجه بعد ذلك ويصعب؛ ولهذا أوجب الله على المؤمنين أن يمسكوا بأيدي هؤلاء وأن يكفوهم عما هم فيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم تلا قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[المائدة:78-81] ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهُون عن المنكر، ولتأخذُن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً -أو: لتقصرنه على الحق قصراً- أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم).
الجرائم سبب للهلاك العام الذي لا ينجو منه إلا من نهى عنها
إن الأخذ على يد المجرم ومنعه من جريمته أول مستفيد منه هو الآخذ على يد المجرم؛ لأنه ينجو بنفسه وينجي أهله من عذاب الله وعقوبته، وإن الذي يظن أن السعي للحيلولة دون الإجرام هو تدخل في الشئون الداخلية، وأنه مما لا يعني الإنسان وينبغي تركه، جاهل بمقتضى الواقع؛ لأنه بمثابة الإنسان الذي في السفينة في عمق البحر ومعه راكب يراه بعين بصره يخرق السفينة لتغرق بأهلها، فهل تدخُّله هنا تدخل في شئون الغير؟!
هو تدخل في شئون النفس؛ يريد إنقاذ نفسه؛ ولذلك أخرج البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، وقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
وقد قص الله علينا في كتابه قصة قرية من بني إسرائيل كانت حاضرة البحر، فحصل فيها الإجرام، فسكت أهلها عن التغيير إلا قليلاً منهم، فجاء البلاء من الله سبحانه وتعالى وعاجلتهم العقوبة، فأخذ الله الذين اقترفوا الإجرام أخذاً وبيلاً، وألحق بهم الذين سكتوا ورضوا وتابعوا، وأنجى الذين كانوا ينهون عن السوء وحدهم؛ ولذلك قال في كتابه: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ* فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ[الأعراف:163-166] فهذا أخذ الله الوبيل وعقوبته الشديدة لمن لم يتمعر وجهه في ذات الله، ولم يغير المنكر إذا رآه!!
شؤم الجرائم على الأرض وساكنيها
إذا ظهر الإجرام في بلد فسيتعدى ضرره وينتشر، وإذا لم تعالج الناس العقوبة فإنه يعالجهم ما يتعلق بذلك الإجرام -نسأل الله السلامة والعافية- من الشؤم؛ فإن لكل ذنب شؤماً يلحقه، وهذا الشؤم لا يختص بصاحب الذنب الذي اقترفه، بل يتعداه إلى من سواه.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بعض مظاهر الإجرام التي حصلت في الأرض، وهي تبين تاريخ هذه الجريمة على هذه الأرض، فهذه الأرض كانت نقية طاهرة، يُعبد عليها الله وحده، كان بها الملائكة، فأراد الله -لحكمة بالغة- أن يمتحن هذا الجنس البشري، فيحله في هذه الأرض الطاهرة الطيبة التي فيها ما يحتاج إليه بنو الإنسان من الأقوات والأمكنة، وكل ما يحتاجون إليه في شئون حياتهم، فامتحنهم الله سبحانه وتعالى بالتكاليف، فكان منهم المفسدون الذين هم إلى النار صائرون، نسأل الله السلامة والعافية!
فعندما بيَّن الله للملائكة أنه سيعمر هذه الأرض بجنس البشر، قالوا: (( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ))[البقرة:30] رعب الملائكة من جرائم بني آدم حين اطلعوا عليها مستورة في اللوح المحفوظ، فعندما أطلعهم الله على ما تؤول إليه هذه البشرية في هذه الأرض، رعبوا من هول هذه الجرائم.
وهذه الجرائم هي بمثابة قنابل ذرية يفجرها الإنسان في هذه الأرض، فتتأثر بها كل الكائنات الحية، وتتأثر بها الحيتان، وتتأثر بها الطيور في السماء، وتتأثر بها ذرات السهول، وتتأثر بها أرحام الأرض وما تنبته، ويتأثر بها كل أنواع النبات، والمكان الذي فجرت فيه بعد عدة قرون لا تزال الولادات فيه مشوهة، ولا تزال الأمراض فيه تنتشر.
أرأيتم القنبلة التي فجرها الأمريكان فوق مدينة (هيروشيما) اليابانية، فهذه القنبلة مازالت إلى الآن آثارها واضحة حتى في الولادات، فالولادات مشوهة، وانتشر السرطان والأمراض الخبيثة؛ بسبب قنبلة واحدة كانت من نوع بدائي في أول نشأة القنابل الذرية، فكيف بهذا الإجرام الذي هو معصية، والذي هو أعظم من هذه القنابل كلها وأفتك!!
إن جريمة واحدة على هذه الأرض تضج الأرض إلى الله منها وتشكو، والإنسان الذي يجرم في مكان قد حله من قبله ملك مقرب كان يسجد لله في هذا المكان، وأنت تقف فيه يا عبد الله تخلف هذا الملك في المكان الذي كان يقف فيه، فإذا أتيت بجريمة تصوَّر حال هذه الأرض وقد كانت تحس بسجود هذا الملك المقرب الذي لا يعصي الله تعالى في المكان، وترى خلافتك أنت لهذا الملك في هذا المكان.
أو حتى لو تصورنا ما هو أقرب من هذا، هذا المكان الذي يعصي فيه البشر كان فيه من قبلهم من الناس الذين كانوا يطيعون الله تعالى ولا يعصونه، فتصور المكان الذي تزاول فيه المعصية كم قد وقع فيه من الطاعات لله سبحانه وتعالى، وكم قد عمره من الصالحين! فإنه يضج إلى الله تعالى من الاقتراف الذي تقترفه فيه، وما يقابله من السماء والهواء والملائكة المكلفون بحفظك وحفظ المكان، كل ذلك يشهد عليك بإجرامك الذي تدمر به البلد.
إن الله سبحانه وتعالى بيَّن لنا أنه مكَّن لنا في آثار السالفين السابقين الذين سبقوا، وجعلنا خلفاء من بعدهم في هذه الأرض، فامتحننا بذلك؛ ليعلم ما نحن صانعون، وهو أعلم؛ فهو سبحانه وتعالى لا يتجدد له وجود علم، وإنما يمتحن الناس بذلك؛ ليشهد عليهم ويُشهد عليهم ملائكته؛ حتى لا ينكر أحد منهم شيئاً مما فعل، فيأتي ومعه الشاهد والسائق والرقيب ويأتون معه ليشهدوا عليه بما اقترف.
يحتاج الإنسان إلى التنبه؛ لأن فترة حياته محدودة، ولأن المكان الذي يعمره من هذه الأرض محدود إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا[الإسراء:37] فعليه ألاَّ يكون مسرفاً مجرماً فيعمر هذا المكان بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وبما لا يرضي المكان نفسه، فالمكان يشهد عليه بكل ما فيه.
من ابتدأ الجريمة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها
كذلك فإن هذا الإجرام مقتضٍ لأن يبقى عمر الإنسان السيئ متجدداً إلى آماد طويلة، فالذي أسرف وأجرم وعمره ثلاثون سنة أو عشرون سنة من وقت إجرامه عمره السيئ الذي فيه الإجرام مستمر؛ لأن الناس سيتبعونه في إجرامهم، فيكتب عليه من سيئاتهم، ويلحقه ذلك بعد موته آماداً طويلة؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول كفل منها) ابن آدم الأول هو من سن القتل لأهل الأرض، وقتل أخاه ظلماً عدواناً، فما من قتيل يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول وزر منه.
وكذلك كل من اقترف جريمة وأذاعها بين الناس فتبعه الناس عليها، فإنه يكتب في ميزان سيئاته أوزار من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دعا إلى الهدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).