تشهد العلاقات المغربية – الموريتانية دينامية جديدة، تجسدت في انعقاد اجتماع اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، وتعزيز التعاون الأمني في كافة الجوانب المرتبطة به لمواجهة التحديات الإقليمية. وهي معطيات تؤشر في العمق على بداية صفحة جديدة متقدمة في مسار العلاقات بين الجارتين، تتجاوز فترة الجمود والفتور التي عرفتها في محطات معينة، إلى مرحلة التعاون والشراكة المثمرة لتحقيق الأهداف المسطرة.
من المؤكد أن هذه المتغيرات وغيرها ألقت بظلالها على جدول أعمال اللقاءات الأخيرة التي أجراها النعم ميارة، رئيس مجلس المستشارين (الغرفة الثانية في البرلمان المغربي) سواء مع رئيس الجمعية الوطنية الموريتانية أو مع أعضاء مجموعة الصداقة بين برلماني البلدين ومجموع الكتلة البرلمانية، وفاعلين من المجتمع المدني وبعض الأعيان المؤثرين ومثقفين وباحثين في مراكز الدراسات والأبحاث وغيرهم.
زيارة المسؤول المغربي اندرجت في سياق مجموعة من المتغيرات الإقليمية والدولية، لعل أبرزها الأزمة الاقتصادية الدولية الناتجة عن الحرب الروسية – الأوكرانية، وقبلها تداعيات أزمة كوفيد19 وما خلفته من آثار على الاقتصاديات الوطنية. وهي متغيرات أثبتت أن عالم اليوم لم يعد عالم الدول القطرية، ولا عالم الدول الخطأ، ولا عالم الدول الفاشلة، ولا عالم الكيانات الوهمية الموجودة في تراث “الحرب الباردة”… وإنما عالم التكتلات، المجمعة للقدرات والإمكانات، المتوفرة على سوق واسعة للعرض وللطلب، القادرة على مقاومة ومجابهة تقلبات اقتصادية ومالية عاصفة.
«اليد الممدودة»
اللافت للانتباه أن رئيس مجلس المستشارين المغربي قدم خلال لقاءاته مرافعة قوية تنتصر في مضمونها ومراميها لمبدأ توطيد العلاقات بين البلدين قوامها أسس جديدة مبنية على الثقة والربح المتبادل، مثلما أفادت مصادر إعلامية محلية.
وجدد النعم ميارة من قلب الجمعية الوطنية الموريتانية التأكيد على دعوة المملكة المغربية، بقيادة العاهل محمد السادس، إلى تأسيس جوار “بيد ممدودة”، ليس فيه مكان للحدود المغلقة، المعطلة لتنقل الأشخاص والبضائع، المعيقة لقطار التنمية والأمن والاستقرار وازدهار الشعوب.
واعتباراً لما يمثله النزاع حول قضية الصحراء على الصعيد الإقليمي، ذكّر رئيس “مجلس المستشارين” المغربي في هذا الإطار بمقترح الحكم الذاتي الذي وصف، كما هو معلوم، في كل قرارات مجلس الأمن الدولي منذ سنة 2007 “بالجدي وذي المصداقية”، لأنه يقدم ملامح حل سياسي واقعي، متفاوض بشأنه، ينهي أطول نزاع في القارة الإفريقية، يعرف الجميع بداياته، وملابساته وتطوراته. وعبر عن أمله في أن يساهم المقترح المغربي في نزع فتيل التوتر المفتعل في المنطقة وبين الحدود، وأن يخلق فضاء آمناً خالياً من الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والبشر ونشاط الجماعات الإرهابية.
المسؤول المغربي أوضح أن هذا الأمر لن يتحقق إلا بانخراط أكبر لكل الدول الأطراف المعنية، بالنظر إلى كلفة المغرب الكبير التي تقدر حسب مراقبين بـ 2 في المئة من الناتج الداخلي الخام للبلدان المغاربية، وتحرم شعوب المنطقة من تحقيق حلم الاندماج المغاربي الذي عطلته بعض الحسابات الضيقة والعقليات التي ما زلت تحنّ إلى زمن “الحرب الباردة”.
الحلم الذي قال عنه النعم ميارة أن الآباء هم من صاغوا معالمه الأولى، فيما فشل الخلف في الدفع به قدماً نحو خلق كيان جهوي قوي، يضاهي نظيره في الضفة الأخرى من المتوسط، أو مثيله كتكتل دول غرب إفريقيا، وكان من كلفة ذلك أن دول المنطقة ما تزال تواجه مصيراً مشتركاً بدون إطار مشترك، بالإضافة إلى دول فرادى تغيب عنها القوة التفاوضية المؤثرة.
كما شدد رئيس الغرفة العليا للبرلمان المغربي على أهمية البعد الاقتصادي في بناء شراكة حقيقية بين المغرب وموريتانيا، ذات بعد استراتيجي تستثمر كل الإمكانيات الاقتصادية والمؤهلات البشرية والطبيعية تشكل نموذجاً يحتذى به للتعاون جنوب – جنوب.
ما تشكله موريتانيا بالنسبة للمغرب كعمق جيو استراتيجي نحو إفريقيا يعزز به شراكاته مع دول جنوب الصحراء، كما يمثل المغرب بالنسبة لموريتانيا بوابة نحو أوروبا.
المغرب قام باستثمارات ضخمة في إفريقيا جنوب الصحراء في مختلف المجالات، وقد تكون الجارة الجنوبية فضاء هاماً وجذاباً للاستثمارات المغربية لاعتبارات تعود لعامل القرب والتكامل بين البلدين في بعض المجالات الحيوية كالفلاحة، ذلك أن موريتانيا على سبيل المثال لا الحصر، تتوفر على ثروة طبيعية هامة، إذ تمتلك ملايين الهكتارات وتتوفر على موارد مائية هائلة، يمكن أن تشكل سلة غذاء شعوب الاتحاد المغاربي لا تعوزها إلا الخبرة التي يتوفر عليها المغرب كبلد زراعي راكم تجربة قوية في هذا المجال، بالإضافة إلى رأس المال البشري والمادي.
القوة الناعمة
استحضر رئيس مجلس المستشارين خلال مباحثاته مع المسؤولين الموريتانيين التاريخ بكل ثقله ليبرز ما يمثله الجار الجنوبي من مكانة ثقافية ورمزية بالمنطقة، بالقول: “تزداد سعادتي لمخاطبة رجال ونساء ورثت حضارة أثيلة معطاء، تمكنت من تطويع محيط إيكولوجي بخصائصه الجغرافية المعروفة، كان ينبوعاً لا ينضب للعلم والمعرفة والبسالة والإقدام. فتجربة الجامعات المتنقلة، التي تمثل خصوصية حضارية لمجتمع تشبع بقيم الثقافة العربية الإسلامية، لتصبح المحاضر بحق، واسمحوا لي أن أقتبس من كلام الأستاذ الخليل النحوي “مدارس علم، ورباط جهاد، ومنارة إشعاع”. فلها الدور البارز في توطيد المعارف الدينية والثقافية، فأصلت جذور الحضارة الإسلامية والثقافة العربية بهذه الأرض المباركة”. وأكد على استمرارية العطاء والإشعاع الثقافي والروحي إلى اليوم، بفعل القوة الناعمة للجمهورية الإسلامية الموريتانية على مختلف أرجاء محيطها. ومن ثم، لقي خطاب المسؤول المغربي استحسان الجميع، لكونه يساهم ـ بحسبهم ـ في تعزيز وتقوية الروابط الثقافية والروحية التي تجمع بين البلدين، ويمنح الثقة في حاضر ومستقبل واعد.
واعتباراً لأهمية البعد البرلماني في توطيد العلاقات بين البلدين، قام كل من رئيس مجلس المستشارين المغربي ورئيس الجمعية الوطنية الموريتانية بالتوقيع على مذكرة تفاهم بين الجانبين، تضمنت جملة من المقتضيات تتعلق بالعمل البرلماني في كل أبعاده.
كما اقترح الجانب المغربي إحداث منتدى برلماني مغربي – موريتاني كفضاء للحوار والتداول في كل القضايا التي ترتبط بتعزيز التعاون وتوطيد الشراكة بين البلدين في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكآلية مؤسساتية تمكن ممثلي شعبي البلدين من المساهمة في توحيد الرؤى لإيجاد حلول وتقديم أجوبة لمختلف الإشكاليات المطروحة، وبلورة أساليب كفيلة بوضع مقومات شراكة مثمرة. وهو منتدى برلماني يتجاوز الصيغ التقليدية لمجموعات الصداقة، ويؤسس لنماذج متقدمة ومتجددة للدبلوماسية البرلمانية، تمكن المؤسستين التشريعيتين لكلا البلدين من لعب أدوارهما كاملة غير منقوصة.
الأكيد أن من شأن زيارة النعم ميارة ابن الصحراء إلى نواكشوط، بثقله السياسي كقيادي بارز في حزب تاريخي عتيد (حزب الاستقلال) ومكانته الدستورية رئيساً لمجلس المستشارين، أن تحمل نتائج إيجابية وملموسة تتناغم والمسار الجديد للعلاقات الثنائية والذي ظهرت مؤخراً بعض تباشيره المشرقة بفعل رؤية وتبصر قائدي البلدين، وفق تأكيد عدد من الباحثين المختصين في الشأن المغاربي.
«القدس العربي»- الرباط