سار الفتى محمد بن إسماعيل في أزقة بلدته بخارى، بجسد نحيل وبصر كفيف، يواجه صعوبات الحياة ببراءة طفل حرمه المرض من نور البصر، غير أن سهام السحر المُراشة برحيق الأجفان المنطلقة من قلب أم رؤوم، أعاد الله بها البصر إلى الطفل البخاري، وأنار بها البصيرة، لتنطلق مسيرة رجل ما زالت توغل في العز والمجد والخلود، كلما أوغلت الأيام في سيرها، بل هو خالد ما خلد الأذان، وما نضر الله وجوه الوعاة المحدثين.
كان ذلك مبتدأ التاريخ في قصة البخاري، أما خبره فلا يزال له رنين في مسامع الزمن ورفيف على أجنة الأيام، بل كان فاتحة التداخل بين المؤلف والكتاب، فعرف كل منهما بالآخر، وحمل الكتاب اسم صاحبه، وحلق به في العوالي من سماوات الخلود.
“إني أحفظ 100 ألف حديث صحيح”.. معجزة المحدثين
ولد أبو عبد الله الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه سنة 194 هـ في مدينة بخارى في دولة أوزبكستان الحالية، وكانت بخارى يومها قد أخذت زخرفها، وازَّينت بكراسي العلماء والمفتين والوعاظ. وقد مات والده وهو صغير، فتربى يتيما في حجر امرأة صالحة فتّقت أزاهير همته، ووجهت مساره إلى العلم، فنهل منه وهو فتى حدث في مدينة بخارى ذات المآذن والمآثر الخالدة في تاريخ المعارف الإسلامية.
عاش الإمام البخاري متنقلا بين الأمصار طلبا للعلم وكان يحفظ أكثر من نصف مليون حديث
ومما أُثر عنه سعة الحفظ، حتى نسب إليه قوله “إني أحفظ 100 ألف حديث صحيح، و200 ألف حديث غير صحيح”. وفي حدة ذهنه واتساع ذاكرته يروى أن رفاقه في طلب الحديث ضاقوا ذرعا بكونهم يكتبون ولا يكتب، ويراجعون ويستذكرون ولا يبذل هو جهدا فيما يكدحون فيه من حفظ واستذكار، فقالوا له: إنك تتردد معنا إلى المشايخ ولا تكتب ما تسمعه، فما الذي تفعله؟
وقد أكثروا عليه حتى ضاق بهم ذرعا، وقال لهم مرة بعد 16 يوما: إنكم قد أكثرتم عليّ وألححتم، فأخرجوا إليّ ما كتبتموه. فأخرجوا إليه ما كان عندهم، فزاد على 15 ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلوا يصحّحون ما كتبوه من حفظه، فعرفوا أنه لا يتقدمه أحد.
وناهيك بهذه الدرجة من الذكاء، وخصوصا إذا صاحبتها همة عالية وعزم وتصميم دفع بالفتى ابن السادسة عشرة إلى قطع البراري والأمصار، فنهل من حلقات العلم في بلخ ونيسابور ومكة المكرمة والمدينة المنورة وبغداد ومصر والشام، ثم جلس بعد ذلك للتحديث، فتدفق عليه الطلاب من كل حدب وصوب، وامتلأ مجلسه بالمتعلمين، حتى أوغر ذلك صدور بعض علماء عصره، وبدأت قصة ابتلاء الإمام البخاري رحمه الله.
ثقة الراوي واتصال السند بالنبي.. منهجية التأليف
ابتدع الإمام البخاري في كتابه “الجامع الصحيح” منهجية مبتكرة لم يسبق إليها، فقد انتقى كتابه من أصل 600 ألف حديث كان قد وعاها ونقح أسانيدها ورجالها، وظل يشذب موسوعته الحديثية، حتى انتهت إلى 7275، من بينها الأحاديث المكررة.
وقد أخذ تصنيف هذا الكتاب 16 سنة من عمر البخاري، ليخرج في نسخته تلك، وليتسابق العلماء إلى حفظه وشرحه وخدمته بالبحوث والمصنفات الجليلة، حتى قال الإمام ابن خلدون في المقدمة: كان مشايخنا يقولون: شرح صحيح البخاري دَيْنٌ على هذه الأُمّة. وقد اعتمد البخاري في التصحيح شروطا متعددة منها:
الرواية المباشرة عن المروي عنه بسنده إلى النبي ﷺ. ثقة المروي عنه وإتقانه وأمانته وضبطه وعلمه وورعه.
وقال عنه الإمام الحافظ بن حجر بعد الرد على بعض الانتقادات التي وجهت للكتاب: فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عَظُم مقدار هذا المُصنَّف (صحيح البخاري) في نفسه، وجلّ تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم، وليسا سواءً: من يدفع بالصدر فلا يأمن دعوى العصبية، ومن يدفع بيد الإنصاف على القواعد المرضية والضوابط المرعية.
شروح البخاري.. بحار علم لا تنضب على مر العصور
وقد تعددت وتنوعت شروح كتاب الجامع الصحيح للبخاري، ومن بينها:
فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ العلامة أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ. عمدة القاري في شرح البخاري، للعلامة بدر الدين محمود بن أحمد العينى الحنفي المتوفى سنة 855 هـ. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، للعلامة محمد بن يوسف بن علي بن سعيد، شمس الدين الكرماني المتوفى سنة 786 هـ. إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري، للعلامة شهاب الدين أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني القاهري الشافعي المتوفى سنة 923 هـ. شرح ابن بطال على صحيح البخاري، لأبي الحسن على بن خلف بن عبد الملك المشهور بابن بطال القرطبي المالكي المتوفى سنة 449 هـ. أعلام السنن، للعلامة حمد بن محمد الخطابي البستي المتوفى سنة 388 هـ. حاشية السندي على صحيح البخاري، للإمام محمد بن عبد الهادي السندي المدني المتوفى سنة 1138. عون الباري لحل أدلة البخاري، شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، لصديق حسن علي الحسيني القنوجي (1307هـ)، وهو شرح لكتاب مختصر الزبيدي (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح).
أجمعت الأمة على أن صحيح البخاري هو أصح كتاب في الدين الإسلامي بعد كتاب الله عز وجل
ولعل من أجلّ هذه الشروح وأكثرها شهرة كتاب “فتح الباري” للإمام ابن حجر العسقلاني.
وإلى جانب احتفاء المسلمين بالبخاري في كل زمان ومكان، فقد كان مرمى شخصيات وتيارات متعددة بشكل دائم، تتهمه بالتزييف والافتراء، وتشن عليه حملات غالبا ما تنكسر أمام دفاع أنصار البخاري وتهافت خصومه الذين لم يطلعوا غالبا على الحد الأدنى من سيرة ومعارف البخاري.
“لا يساكنني هذا الرجل في هذه البلدة”.. حسد العلماء وجفوة السلطان
أقبلت دنيا العلم على الإمام البخاري، وأصبح حديث الناس وإمام أهل السنة، وكان التلاميذ ينهلون من علمه الثري وتربيته الإيمانية المشرقة، ويتدفق عليهم من كرمه الجزيل فيض عميم، فأثار غيرة جيل من علماء الشرق الإسلامي يومها، فاتهموه بالقول بخلق القرآن.
ثم اشتدت المحنة عليه بعد أن تحولت إليه قلوب الناس وأقلامهم، وتدفق الطلاب والمستمعون إلى مجلسه، وخلا مجلس شيخ نيسابور محمد بن يحيى الذهلي من تلاميذه، وقد كان شيخَ خراسان كلها، فأطلق لسان النيل من البخاري، وحرض عليه العامة والخاصة، ثم دعا إلى إخراجه من خراسان، حين أطلق كلمته الشهيرة “لا يساكنني هذا الرجل في هذه البلدة”.
في آخر عمره، طرد الإمام البخاري من مدينته بخارى فرحل إلى سمرقند وكانت وفاته فيها
وزاد من محنة البخاري جفوة والي بخارى له، بعد أن رفض أن يخصه بمجلس حديث في بيته دون بقية الناس، فلم يكن منه إلا أن نفى الإمام محمد بن إسماعيل إلى قرية خرتنك، فأقام فيها في حال من الأسى إلى أن اشتدت عليه المحنة، فسأل الله أن يقبضه.
يتحدث الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الأيام الأخيرة في حياة البخاري قائلا: قال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك -قرية على فرسخين من سمرقند- وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فسمعته ليلة يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات. وقبره بخرتنك.
رائحة الطيب وسواري السماء البيضاء.. روضة إمام المحدثين
قال أبو منصور غالب بن جبريل -وهو الذي نزل عليه البخاري ضيفا-: أقام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل عندنا أياما، فمرض، واشتد به المرض، حتى وجّه رسولا إلى مدينة سمرقند في إخراج محمد، فلما وافى تهيأ للركوب، فلبِس خفيه وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها وأنا آخذٌ بعضده، ورجلٌ أخذ معي يقوده إلى الدابة ليركبها، فقال رحمه الله: أرسلوني فقد ضعُفت، فدعا بدعوات، ثم اضطجع، فقضى -رحمه الله- فسال منه العرق شيءٌ لا يوصف، فما سكن منه العرق إلى أن أدرجناه في ثيابه.
وكان فيما قال لنا وأوصى إلينا: أن كفنوني في ثلاثة أثواب بِيض، ليس فيها قميصٌ ولا عمامة، ففعلنا ذلك، فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحةٌ غاليةٌ أطيب من المسك، فدام ذلك أياما، ثم علت سواريُّ بيضٌ في السماء مستطيلةٌ بحذاء قبره، فجعل الناس يختلفون ويتعجبون.
مقام الإمام البخاري في مدينة سمرقند بأوزبكستان
وأما التراب فإنهم كانوا يرفعون عن القبر حتى ظهر القبر، ولم نكن نقدر على حفظ القبر بالحراس، وغُلِبنا على أنفسنا، فنصبنا على القبر خشبا مشبكا، لم يكن أحدٌ يقدر على الوصول إلى القبر، فكانوا يرفعون ما حول القبر من التراب، ولم يكونوا يخلصون إلى القبر.
وأما ريح الطيب فإنه تداوم أياما كثيرة حتى تحدث أهل البلدة، وتعجبوا من ذلك، وظهر عند مخالفيه أمره بعد وفاته، وخرج بعض مخالفيه إلى قبره، وأظهروا التوبة والندامة مما كانوا قد تكلموا به في مذهب البخاري.
وعلى ضفاف الرائحة الغالية والمسك الفواح، سار البخاريُّ وصحيحُه رنينَ إيمان وميراث نبوة وقصة حضارة، يتردد صداها النضير كلما ردد المسلمون قوله ﷺ: (نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها).